تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه
قوله (تعالى ذكره): {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} إلى قوله {قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} قد تقدم ذكر السَّدِّ والسُّدِّ في الكهف، والمعنى: جعلنا من بين أيدي هؤلاء الكفار حاجزاً ومن خلفهم حاجزاً.
{فَأغْشَيْنَاهُمْ} أي: جعلنا على أعينهم غشاوة.
وروي عن ابن عباس وعكرمة ويحيى بن يعمر: "فَأَعْشَيْنَاهُمْ"، بالعين غير معجمة من عَشَى العين.
قال الطبري في "سُدّاً": من فتح كان من فعل بني آدم، وإذا كان من فعل الله كان بالضم.
وقيل: معناه أنهم زين لهم سوء أعمالهم فهم يعمهون فلا يبصرون شيئاً.
قال مجاهد: سداً عن الحق فهم يترددون.
وقال ابن زيد: جعل هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان فهم لا يخلصون إليه. وقرأ: {وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ}، وقرأ: { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [يونس: 96]، وقرأ شبه ذلك.
وقيل: هو تمثيل، والمعنى: أنه تعالى منعهم من الهدى بالضلال فلم ينتفعوا بالإنذار.
قال ابن إسحاق: جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأمية بن خلف يرتصدون النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغوا من أذاه، فخرج عليهم فقرأ أول {يسۤ} وفي يده تراب فرماهم به، وقرأ: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} إلى رأس العشر، فأطرقوا حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عباس: أقسم أبو جهل لئن رأيت محمداً يصلي لأدمغنه، فأخذ حجراً والنبي عليه السلام يصلي ليرميه به، فلما أومأ به إليه رجعت يده إلى عنقه والتصق الحجر بيده، فهو قوله: { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } [يس: 8].
قال عكرمة: كانوا يقولون: هذا محمد، فيقول أبو جهل: أين هو؟ أين هو؟ لا يبصره.
ثم قال: {وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} أي: الإنذار وتركه على هؤلاء الذين حق عليهم القول سواء، فهم لا يؤمنون لما سبق لهم في أم الكتاب، وهو قوله: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } [الأعراف: 179].
قال ابن عباس: ما آمن منهم أحد، يريد من القوم الذين تقدم ذكرهم.
ثم قال: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ} أي: من آمن بالقرآن.
{وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ} أي: وخاف الله حين يغيب عن أبصار الناس لأن المنافق يستخف بدين الله إذا خلا.
ويجوز أن يكون المعنى: وخاف الله من أجل ما أتاه من الأخبار التي غابت عنه فلم يعاينها، ولكنه صدقها فخاف من عواقبها، فهو مثل قوله: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } [البقرة: 3].
ثم قال: {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} أي: بستر من الله لذنوبه إذا اتبع الذكر وخاف الله.
{وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أي: وثواب في الآخرة حسن، وذلك الجنة.
ثم قال: (تعالى ذكره: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ} يعني في الآخرة للنشور.
{وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} أي: من أعمالهم في الخير والشر. وتقديره: ونكتب ذكر ما قدموا.
{وَآثَارَهُمْ} أي: ما أخروا بعدهم من الأعمال والسنن التي يتبعون عليها (ويقتدى بهم فيها). فهو ما أبقى الرجل بعده من عمل يجري عليه ثوابه أو إثمه. وقيل / هو تصرفهم وتقلبهم في (الدنيا) وخطاهم مكتوب (كله).
وروي أن هذه الآية نزلت في قوم أرادوا أن يقربوا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرب عليهم. فيكون المعنى: ونكتب ثواب خطاهم ومشيهم إلى المسجد على بعد مساكنهم وقربها.
قال ابن عباس: كانت (منازل) الأنصار متباعدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فنزلت {وَنَكْتُبُ مَاَ (قَدَّمُواْ) وَآثَارَهُمْ} فقالوا: نثبت مكاننا.
وقال جابر: أَرَادَ بَنُو سَلِمَة قُرْبَ المَسْجِدِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَا بَنِي سَلِمَةَ دِيَّارَكُمْ إِنَّهَا تُثْبَتُ آثَارُكُمْ" .
وقال مجاهد و (الحسن) وقتادة: آثارهم خطاهم.
قال جابر بن عبد الله: "هَمَمْنَا أَنْ نَنْتَقِلَ إِلَى قُرْبِ المَسْجِدِ، واسْتَشَرْنَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: امْكُثُوا (مَكَانَكُمْ)، فَإِنَّ لَكُمْ فَضِيْلَةٌ عَلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْكُمْ بِكُلِّ خُطْوَةٍ دَرَجَةً" .
وروى جابر "أنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ الله أَرَدْنَا أَنْ نَتَحَوَّلَ إِلَى قُرْبِ المَسْجِدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: لا تَفْعَلُوا فَإِنَّ بِكُلِّ خُطْوَةٍ (حَسَنَةً)" .
وروى عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يُكْتَبُ لَهُ بِرِجْلٍ حَسَنَةً وَيُحَطُّ عَنْهُ بِرِجْلٍ سَيِّئَةً /، ذَاهِباً وَرَاجِعاً إِذَا خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ" .
ثم قال (تعالى): {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ} أي: ما كان وما هو كائن أثبتناه في أم الكتاب. ومعنى {مُّبِينٍ} أي: بَيّنٍ عن حقيقة ما أثبت فيه، وهو اللوح المحفوظ. قاله مجاهد وقتادة وابن زيد.
ثم قال (تعالى): {وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ ٱلقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا ٱلْمُرْسَلُونَ} أي: اذكر لهم يا محمد مثلاً ومثل لهم مثلاً.
يقال هذا من ضرب هذا، أي: من أمثاله وجنسه.
أصحاب القرية بدل من مثل، والتقدير مثل أصحاب القرية.
قال عكرمة: هي أَنْطَاكِيَة.
وقاله الزهري.
وهو مروي عن ابن عباس أيضاً.
قال قتادة: ذُكِرَ لنا أن عيسى بن مريم عليهما السلام بعث رجلين من الحواريين إلى أنْطاكِيَة مدينة الروم فكذبوهما، فقواهما الله بثالث فكذبوهم.
وقال وهب بن منبه: كان بمدينة أنطاكية فرعون من الفراعنة يعبد الأصنام، يقال له: أنطيخس بن أنطيخس بن أنطيخس، فبعث الله (إليه) المرسلين وهم ثلاثة صَادِقٌ وصَدُوقٌ وَشَلُومٌ، فقدم الله إليه وإلى أهل مدينته اثنين منهم فكذبوهما، وهو قوله: {قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} أي: لستم بملائكة، إنما أنتم بنو آدم مثلنا فلا نقبل منكم، {وَمَآ أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} قالت الرسل: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}.
(أي من عنده)، {وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ} أي: ليس يلزمنا إلا أن نبلغ إليكم ما أُرْسِلْنا به (إليكم) ونبينه لكم. قال وهب: ثم عزز الله بثالث، فلما دعته الرسل ونادته بأمر الله وعابت دينه قالوا لهم: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي: تَشَاءَمْنا بِكُمْ، {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ}، أي: لئن لم تسكتوا عما تقولون لنقتلنكم رجماً ولنعذبنكم عذاباً (أليماً).
وتأول الفراء: أن الثالث أرسل قبل الاثنين، وأنه شمعون ولو كان كما قال لكان القرآن: فعززنا بالثالث.
ومعنى: {فَعَزَّزْنَا} فقوينا وشددنا، وأصله من عَزَّنِي إذا غلبني، ومنه قوله: { وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } [ص: 23]، أي غلبني.
ثم قال (تعالى): {قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} أي: قالت لهم الرسل لما تشاءموا بهم: أعمالكم معكم وحظكم من الشر والخير معكم ليس ذلك من شؤمنا، أَمِنْ أجل أنَّا ذَكَّرْنَاكُمْ بالله وبعقابه تطيرتم بنا.
وقيل: التقدير: قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم فمعكم طائركم، يقدره على التكرير، وهو مذهب بعض البصريين.
وقرئت {أَئِن ذُكِّرْتُم} بهمزتين مفتوحتين.
والمعنى: لأن ذُكِّرْتُم تطيرتم بنا فهو على ما مضى، وقراءة الجماعة على ما يأتي.
{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} أي: في المعاصي.