قوله تعالى: { حـمۤ * تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } - إلى قوله - { ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ }. قد تقدم القول في حم.
وقوله: { تَنزِيلٌ }، أي: هو تنزيل، يعني: هذا القرآن تنزيل من الله الرحمن الرحيم على عبده محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ }، أي: هو كتاب فصلت آياته بالحلال والحرام، والفرائض والأحكام. وهو قول قتادة.
(وقال الحسن): فصلت بالوعد والوعيد.
وقال مجاهد: فصلت: فسرت.
وقيل: "كتاب" ارتفع على أنه خبر لتنزيل.
وقيل: معنى فصلت آياته: أنزلت شيئاً بعد شيء، ولم تنزل إلى الدنيا مرة واحدة.
ثم قال تعالى: { قُرْآناً عَرَبِيّاً }، نصب "قرآناً على الحال، أي: فصلت آياته في حال جمعه، وقيل: نصبه على المدح، والمعنى أنه ليس بأعجمي بل هو عربي.
وهذا يدل على بطلان قول من قال: إن فيه من لغة العبرانية والنبطية ما لم تعرفه العرب. بل الذي فيه من ذلك قد أعربته العرب وغيرته بلسانها فصار من لغتها. (فصار كل) القرآن عربياً.
ويدل أيضاً هذا على بطلان قول من قال: إن فيه معاني باطنة لا تعلمها العرب فكيف ينزل بلغتها وهي لا تفهمه.
ثم قال تعالى: { بَشِيراً وَنَذِيراً }، أي: يبشرهم - إن آمنوا وعملوا بما أمروا - بالخلود في الجنة وينذرهم - إن عصوا أو كفروا - بالخلود في النار.
وقوله: { لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }، معناه: لقوم يعقلون ما يقال لهم.
وهذا يدل على أن الله جل ذكره إنما خاطب العقلاء البالغين، وإن من أشكل عليه شيء من أمر دينه وجب عليه أن يسأل من يعلم.
ثم قال تعالى: { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }، أي: فأعرض كثير منهم عن الإيمان واستكبروا عن قبول ما جاءهم به محمد عليه السلام؛ فهم لا يصغون له فيسمعون ما فيه، استكباراً.
وقيل: معنى لا يسمعون، لا يقبلون ما جاءهم من عند الله عز وجل.
"ويروى أن قريشاً اجتمعت في أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم عتبة بن ربيعة - وكان مقدماً في قريش، قد قرأ الكتب وقال الشعر وعرف الكهانة والسحر - أنا أمضي إلى محمد فاستخبر أمره لكم. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند المقام بمكة، فقال: يا محمد، إن كنت فقيراً جمعنا لك من أموالنا ما نغنيك به، وإن أحببت الرياسة رأسناك علينا ... وعدد عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت. فلما فرغ عتبة من كلامه قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ حـمۤ * تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } - إلى - { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ } - حتى بلغ - { وَثَمُودَ }، فلما سمع عتبة ذلك وثب خائفاً فوضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وناشده بالرحم إلا سكت، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، وانصرف عنه إلى منزله، وأبطأ على قريش.
فقالت قريش: صبأ عتبة إلى دين محمد! امضوا بنا إليه. فجاؤوا منزل عتبة فدخلوا وسلموا وسألوه. فقال: يا قوم، قد علمتم أني من أكثركم مالا وأوسطكم حسباً، وأني لم أترك شيئا إلا وقد علمته وقرأته وقلته، والله يا قوم، لقد قرأ علي محمد كلاماً ليس بشعر (ولا رجز) ولا سحر ولا كهانة، ولولا ما ناشدته الرحم ووضعت يدي على فمه لخفت أن ينزل بكم العذاب" .
قال أبو محمد: وهذا يدل على إعجاز القرآن، فلو كانوا يقدرون على مثله أو على شيء منه لعارضوه به ولاحتجوا عليه بذلك.
ثم قال تعالى: { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ }، أي: وقال المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم: قلوبنا في أوعية قد تغطت بها فلا تفهم عنك ما تقول لها كقول اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: قلوبنا غلف وواحد الاكنة كنان.
{ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ }، أي: صمم، فلا تسمع منك ما تقول كراهة لقولك.
قال مجاهد: في أكنة: "كالجعبة للنبل"، وقال السدي: في أكنة: في أغطية.
ثم قال تعالى: حكاية عنهم: { "وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ }"، أي: حاجز فلا نجامعك على شيء مما تقول، نحن نعبد الأصنام وأنت تعبد الله سبحانه. فهذا هو الحاجز الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قالوا له: { فَٱعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ }، أي: فاعمل يا محمد بدينك، إننا عاملون بديننا، ودع ما تدعونا إليه من دينك وندع دعاءك إلى ديننا.
وقيل: المعنى: فاعمل في هلاكنا وضرنا إنا عاملون في مثل ذلك منه.
ثم قال الله جل ذكره لنبيه عليه السلام: قل لهم يا محمد جواباً لهم على قولهم لك: { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ }"، أي: إنما أنا من ولد آدم مثلكم في الصورة والحال، أوحى الله عز وجل إلي أن معبودكم الذي تجب له العبادة والخضوع واحد لا إله غيره.
{ فَٱسْتَقِيمُوۤاْ إِلَيْهِ }، أي استقيموا على عبادته ولا تعبدوا غيره.
{ وَٱسْتَغْفِرُوهُ } على ما سلف من فعلكم في عبادتكم الأصنام من دونه وتوبوا إليه من ذلك.
ثم قال تعالى: { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ }، أي: (وقيوح) وصديد أهل النار لمن ادعى أن لله شريكاً لا إله إلا هو.
وقوله: { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ }، (معناه: الذين لا يعطون لله طاعة تطهرهم من الذنوب وتزكي أعمالهم، وهذا معنى قول ابن عباس وروي عنه أنه قال: الذين لا يؤتون الزكاة، أي): لا يشهدون ألا إله إلا الله.
وقال عكرمة: معناه: الذين لا يقولون لا إله إلا الله.
وقال قتادة: معناه: الذين لا يقرون بفرض زكاة أموالهم ولا يؤمنون بفرض ذلك عليهم، وكان يقال: إن الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك، وقد قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه أهل الردة على منعهم الزكاة مع إقرارهم بالصلاة. وقال رضي الله عنه: والله لو منعوني عقالاً مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه.
قال السدي: لو زكوا وهم مشركون لم تنفعهم.
وروى نافع عن ابن عمر: الذين لا يؤتون الزكاة: التوحيد.
وقال الربيع بن أنس: معناه، الذين لا يزكون أعمالهم فينتفعون بها.
قال الحسن: "عظم الله عز وجل شأن الزكاة فذكرها. فالمسلمون يزكون والكفار لا يزكون، والمسلمون يصلون والكفار لا يصلون".
وقال الزجاج: معناه: لا يؤمنون بأن الزكاة حق واجب عليهم.
ثم قال تعالى: { وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }، أي: وهم مع تركهم لإخراج زكاة أموالهم وكفرهم بأن الزكاة واجبة لا يصدقون بالبعث والجزاء.
ثم قال تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ }، أي: إن الذين صدقوا / الله ورسوله وعملوا بما أمرهم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وانتهوا عما نهوا عنه لهم الجنة.
قال ابن عباس: غير ممنون: غير منقوص، وقال مجاهد: "غير محسوب".
وقيل: غير مقطوع، بل نعيمهم أبداً لا ينقطع.
يقال: (مننت الحبل) إذا قطعته، (وقد منه السفر إذا) قطعه.
وقيل معناه: لهم أجر لا يمن عليهم به من أعطاهم إياه، لأنه قد وعدهم به، ووعده تعالى ذكره حق عليه إتمامه. فلا منة تلحقهم في إتمام ما وعدهم به.
ثم قال تعالى: { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ }. هذا تقرير وتوبيخ للمشركين.
والمعنى: أتكفرون (بالله الذي) ابتدع خلق الأرضين السبع في يومين.
{ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً }، أي: أمثالاً تعبدونهم (من دون الله) { ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ }، أي: الذي ابتدع خلق الأرضين السبع في يومين مع غلظها وعظمها، وطولها وعرضها، وثبتها تحت أقدام الخلق حتى تصرفوا عليها، فهو خالق جميع الخلق ومالكهم، وله تصلح العبادة لا لغيره، واليومان هما: يوم الأحد والإثنين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود حين سألوه عن ذلك: "خلق الله الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين) وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب. فهذه أربعة أيام وهو قوله { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ }" ، أي: لمن سأل عن ذلك. "وسواء" مصدر عند سيبويه، أي: استوت استواء.
وقد (قرئ "سواء") بالخفض على النعت لأربعة أيام، رويت عن الحسن على معنى مستويات ومثله: رجل عدل، أي عادل.
وقرأ أبو جعفر بالرفع على معنى: هي سواء.