خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
١٣
قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٤
إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ
١٥
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١٦
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ
١٧
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٨
-الحجرات

تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه

قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ } إلى آخر السورة الآيات.
أي: خلقناكم من آدم وحواء، يعني من ماء ذكر وماء أنثى.
قال مجاهد: خلق الله عز وجل الولد من ماء الرجل وماء المرأة.
ثم قال: { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ }.
أي: وجعلناكم متناسبين يناسب بعضكم بعضاً فيعرف بعضكم بعضاً، فيقال فلان ابن فلان من بني فلان فيعرف قرب نسبه من بعده فالأفخاذ أقرب [من القبائل والقبائل أقرب] من الشعوب.
قال مجاهد: شعوباً هو النسب البعيد، والقبائل دون ذلك.
وكذلك قال قتادة والضحاك.
قال ابن عباس: الشعوب الجماع، والقبائل البطون.
وقال ابن جبير: الشعوب الجمهور، والقبائل الأفخاذ.
وواحد الشعوب شعب بالفتح، والشعب عند أهل اللغة: الجمهور مثل مضر تقسمت وتفرقت، ثم يليه القبيلة لأنها يقابل بعضها بعضاً، ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ وهو أقربها.
وقيل: إن الشعوب الموالي، والقبائل العرب.
ثم قال: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ }.
أي: أفضلكم عند الله أتقاكم لارتكاب ما نهى الله سبحانه عنه، وأعمالكم لما أمر الله تعالى به ليس فضلكم بأنسابكم إنما الفضل لمن كثر تقاه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأل عن غير الناس فقال:
"آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم وأتقاهم" .
قال أبو هريرة: ينادي مناد يوم القيامة إنا جعلنا نسباً وجعلتم نسباً إن أكرمكم عند الله أتقاكم ليقم المتقون، فلا يقوم إلا من كان كذلك.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"أخير الناس من طال عمره وحسن عمله" .
وروي عن ابن عباس أنه قرأ: "لتعرفوا أن أكرمكم عند الله بفتح "أن" وتعرفوا على مقال تضربوا، على معنى جعلهم شعوباً وقبائل لكي يعرفوا أن أكرمهم عند الله أتقاهم، ومجاز هذه القراءة: جعلهم كذلك ليعرفوا أنسابهم؛ لأن أكرمهم عند الله أتقاهم؛ لأن: "تَعْرِفُوا" عملت في: "أن" لأنه لم يجعلهم شعوباً وقبائل ليعرفوا أن أكرمهم عند الله أتقاهم، إنما جعلهم كذلك ليعرفوا أنسابهم.
وكسر "أن" أولى وأتم في المعنى المقصود إليه بالآية.
ثم قال: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }.
أي: ذو علم، بأتقاكم عنده وأكرمكم، وذو خبر بكم وبمصالحكم.
ثم قال: { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا }.
أي: قالت جماعة الأعراب صدقنا بالله وبرسوله، قل لهم يا محمد لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا وخضعنا وتذللنا.
والإسلام في اللغة الخضوع والتذلل لأمر الله جل ذكره والتسليم له.
والإيمان: التصديق بكل ما جاء من عند الله.
وللإسلام موضع آخر وهو الاستسلام خوف القتل، قد يقع الإسلام بمعنى الإيمان وقد يكون بمعنى الاستسلام. والإيمان والإسلام يتعرفان على وجهين إيمان ظاهر / لا باطن معه نحو قوله:
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة: 8] وإيمان باطن وظاهر وهو المتقبل، وإسلام ظاهر لا باطن معه كالذي في هذه السورة.
والإسلام أعم من الإيمان لأن الإسلام ما صدق به باطن [ونطق به الظاهر والإيمان ما صدق به الباطن]، فإن كان الإسلام ظاهراً غير باطن فليس بإيمان إنما هو استسلام ولا هو إسلام صحيح.
وهذه الآية نزلت في أعراب من بني أسد، وهم من المؤلفة قلوبهم أسلموا بألسنتهم خوف القتل والسباء ولم تصدق قلوبهم ألسنتهم.
فرد الله عليهم قولهم "آمنا" إذ لم يصدقوه بقلوبهم، وقال بل قولوا أسلمنا: أي: استسلمنا في الظاهر خوف القتل، فالإسلام / قول، والإيمان قول وعمل.
قال الزهري: الإسلام قول والإيمان عمل.
قال ابن زيد قوله: { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ } أي: لم تصدقوا قولكم بعملكم.
ثم أخبر تعالى بصفة المؤمنين فقال: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ }.
قال النخعي: ولكن قولوا أسلمنا: أي: استسلمنا.
وعن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في أعراب أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا فأعلمهم الله عز وجل أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين.
وقيل إنهم منوا على النبي صلى الله عليه وسلم بإيمانهم فأعلمهم الله عز وجل أن هذا ليس من خلق المؤمنين إنما هو من خلق من استسلم خوف السباء والقتل، ولو دخل الإيمان في قلوبهم ما منّوا به، ودليله قوله بعد ذلك { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ }.
وقال قتادة: لم تعم هذه الآية كل الأعراب، بل فيهم المؤمنون حقاً، إنما نزلت في حي من أحياء العرب امتنوا بإسلامهم على نبي الله فقالوا آمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان.
ثم قال تعالى ذكره: { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }.
أي: ولما يدخل العلم بشرائع الإيمان وحقائقه في قلوبكم، وهو نفي قد دخل.
ثم قال: { وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً }.
أي: إن أطعتم الله ورسوله فيما تؤمرون به لا ينقصكم الله (من ثواب أعمالكم شيئاً في الآخرة) ولا يظلمكم.
قال ابن زيد معناه: "إن تصدقوا قلوبكم بفعلكم يقبل ذلك منكم، وتجاوزا عليه". يقال: أَلَتَهُ ويَأَلِتْهُ وَلآتَهُ يَلِيتُه لغتان بمعنى: نَقَصَه، فمن قرأ "لاَ يَلِتْكُمْ" فهو من لاَتَ يَلِيتَ، وتصديقها في المصحف أنها بغير ألف بعد الياء، ولو كانت همزة لم تختصر من الخط.
ومن قرأ "يَأْلِتْكُمْ" فهو من أَلَتَ يَأْلِتُ.
فأما قوله:
{ { وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم } [الطور: 21] فهو من أَلَتَ يَأْلَتُ، (ولو جاء على اللغة) الأخرى لقيل، وما أَلَتْنَاهُمْ. وهذه لغة هذيل.
وبذلك قرأ ابن مسعود وأُبي، وهذه القراءة شاهدة لقراءة من قرأ هنا "يَلِتْكُمْ" من لاَتَ يَلِيْتُ، لكنها مخالفة للخط؛ لأن الخط في "والطور" بألف قبل اللام، لكن من جعله هنا من لات وفي "الطور من ألت" فإنما جمع بين اللغتين واتبع الخط في الموضعين، ومثله مما أجمع عليه قوله:
{ { فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ } [الفرقان: 5]، فهذا من أَمْلَى يُمْلِي.
ثم قال في موضع آخر:
{ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } [البقرة: 282]، فهذا من أمثال، يقال أَمْلَى عليه وَأَمَال عَلَيْه: لغتان، ومثله قوله: { { سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً } [النساء: 56] فهذا من أمليت.
وقال في موضع آخر
{ { ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ } [الحاقة: 31] فهذا من صليت.
ومثله قوله:
{ كَيْفَ يُبْدِئُ ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ } [العنكبوت: 18] من أبدأ، وقال: { كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ } [العنكبوت: 19] من بدأته، يقال: أَبْدَأَهُ وَبَدَأَهُ لغتان.
وقد قرأ ابن كثير: أَلِتْنَاهُمْ بكسر اللام، وهي لغة أيضاً. يقال: أَلِتَ يَأْلِتُ وَأَلَتَ يَألَتُ.
ثم قال: { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
أي: غفور للذنوب لمن تاب منها رحيم أن يعذب أحداً بعد توبته.
ثم قال: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }.
أي: صدقوا بما أنزل الله، وبرسول الله بقلوبهم، وأقروا به بألسنتهم، وقبلوا ما أمروا به، وانتهوا عما نهوا عنه، ثم لم يُشكوا في ذلك.
{ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } أي: هم الذين صدقوا في قولهم / إنا مؤمنون.
ثم قال: { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ } أي: أتعلمونه بطاعتكم وما أضمرت قلوبكم، وهو يعلم ما غاب عنكم في السماوات والأرض.
لا يخفى عليه شيء من ذلك، فكيف يخفى عليه ما تخفي صدوركم.
{ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي: ذو علم بجميع الأشياء.
ثم قال: { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ }.
أي: يمنون عليك يا محمد بإسلامهم، قل لهم: لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم بهدايته لكم إلى الإيمان، ولولا توفيقه لكم ما أسلمتم، فالمنة له لا إله إلا هو إن كنتم صادقين في قولكم (أنكم آمنتم)، فالمنة في ذلك عليكم لله عز وجل، ولا منة لكم على الله، وذلك
"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفضل المهاجرين بالعطاء ليستألفهم على الإسلام فكرهت الأنصار ذلك وتكلمت، فأنزل الله عز وجل { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ } الآية، فلما نزلت أتى الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبكون فقالوا يا رسول الله جئتنا ونحن ضلال فهدانا الله بك، وجئتنا ونحن أذلة فهدانا الله بك، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم لئن قلتم إنك جئتنا ذليلاً فأعززناك ومطروداً فآويناك، فقالت الأنصار بل لله ورسوله المنة علينا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الناس دثاري وأنتم شعاري، ولو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً لسلكت وادي الأنصار ولولا الهجرة لكنت أحداً من الأنصار" .
ثم قال: { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: يعلم ما غاب فيها لا يخفى عليه [شيء]، فهو يعلم الصادق منكم من الكاذب في دعواه، فلا يخفى عليه ما تكنه صدوركم.
ثم قال: { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي: ذو بصر بأعمالكم لا يخفى عليه منها شيء فهو محصيها عليكم حتى يجازيكم بها إن خيراً فخير وإن شراً فشر.