قوله: { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ }، إلى قوله: { ٱلْمُصْلِحِينَ }.
روى أبو بكر عن عاصم: "وَقَطَعْنَهَمْ"، بالتخفيف.
والمعنى: وفرقنا بني إسرائيل في الأرض { أُمَماً }، أي: جماعات شتى. ففي كل أرض قوم من اليهود، { مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ }، أي: منهم من يؤمن بالله ورسله، { وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ }، وصفهم بهذا قَبْلَ كُفْرِهِمْ وارتدادهم عن دينهم، وقَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ عِيسَى (عليه السلام).
{ وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ }.
أي: بالرخاء، والسعة في الرزق، { وَٱلسَّيِّئَاتِ }، بالجدب والمصائب، أي: اختبرناهم بذلك، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }، إلى طاعة الله (عز وجل).
قوله: { أُمَماً }، وقف.
و { دُونَ ذٰلِكَ }، وقف.
و { وَٱلسَّيِّئَاتِ }، وقف.
ثم قال تعالى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ }.
أي: حدث من بعدهم خَلْفُ سُوْءٍ، يعني: أبناءهم.
و "الخَلْف": الرديء من القول، ومن الأبناء، يقال للواحد والاثنين والجميع، بلفظ واحد.
ويقال في المدح: "هذا خَلَف صِدْقٍ"، بتحريك اللام، ولَزِمَ تسكن اللام فيه، هذا الأشهر.
وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح، قال حسان:
......، وخَلْفُنَا لأوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللهِ تابعُ
والخَلَفُ السُّوْءِ، مأخوذ من قولهم: "خَلَفَ اللّبَن"، إذ حمض حتى فسد، ومن قولهم: "خَلَفُ فَمِ الصَّائِمِ"، إذا تغير ريحه.
وقال مجاهد: "الخَلْف" في الآية يراد به النصارى بعد اليهود.
{ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ }.
يعني: الرشوة على الحكم في قول الجميع.
{ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا }.
يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه مغفور، لا نؤاخَذُ به.
والثاني: أنه ذنب، لكن الله قد يغفره لنا، تأميلاً منهم لرحمته.
وهو ما عَنَّ لهم من عرض الدنيا حلالاً كان أو حراماً، يأخذونه ويتمنون المغفرة، { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا }، وإن وجدوا بعده مثله، أخذوه، فهم مُصِرُّونَ على أخذه، وإنما يتمنى المغفرة من أَقْلَعَ عن الذنب، فلم يعد إليه، ولاَ نَوَى الرجوع إلى مثله.
قال ابن جبير: يعملون بالذنب ثم يستغفرون منه، فإن عرض لهم ذنب رَكِبُوه.
و "العَرَضُ" عنده: الذنوب.
قال السدي: كان بنو إسرائيل لا يَسْتَقْضُونَ قَاضِياً إِلاَّ ارْتَشَىِ في الحُكْمِ، فيقال له في ذلك، فيقول: { سَيُغْفَرُ لَنَا }، فيطعن عليه بقية بني إسرائيل. فإذا مات جعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه، فيرتشي، أيضاً، ثم لاَ يَثُوبُونَ.
قال ابن زيد: يأتيهم المحق برشوة، فيخرجون له كتاب الله، ثم يحكمون له بالرشوة / فإذا جاءهم الظالم بالرِّشوة، أخرجوا له الكتاب الذي كتبوا بأيديهم، وقالوا: { هَـٰذَا [مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ] لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [البقرة: 79]، وهو عَرَضُ الدنيا، هو الرُّشَى في الحكم، فيحكمون له بما في الكتاب، فهو [في كتابهم]، محق، وهو في التوراة ظالم، فقال الله (عز وجل): { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ }.
المعنى: ألم يؤخذ عليهم الميثاق، ألا يعملوا إلا بما في التوراة، و { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ }.
[قال ابن عباس: { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ }]، يعني [فيما] يوجبون به من غفران ذنوبهم التي هم عليها مصرون.
وقوله: { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ }.
معناه: ورثوا الكتاب، ودرسوا ما فيه، فَنَبَذُوهُ، وعملوا بخلاف ما فيه.
وقال ابن زيد: علَّموه، فَعَلِمُوا ما فيه.
ثم قال: { وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }.
أي: ما فيها من النعيم.
قوله: { يَأْخُذُوهُ }، وقف.
وكذا: { إِلاَّ ٱلْحَقَّ }.
وكذا: { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ }.
ثم قال: { وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ }.
أي: يعملون بما في التوراة، { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ }، [ي: أجر المُصلِحِ منهم].