خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ
١
أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ
٢
وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ
٣
إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٥
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٦
-هود

تفسير الجيلاني

{الۤر} أيها الإنسان الأحق الأليق لإعلاء الواء لوازم الألوهية وارتفاع رايات رموز أسرار الربوبية بين الأنام بالبيان والتبيان هذا {كِتَابٌ} أنزل إليك لتأييدك في أمرك، مصدق لما في الكتب السالفة جامع لأحكامها {أُحْكِمَتْ} ونظمت {آيَاتُهُ} أشد تنظيم وأبلغ إحكام وإتقان بحيث لا يعرضه خلل واختلال لا في معناه ولا في لفظه؛ لذلك عجزت عن معارضته جميع أرباب اللسن والفصاحة مع وفور وعيهم {ثُمَّ} بعد إحكامه لفظاً ومعنى {فُصِّلَتْ} وأوضحت فيه من المعارف والحقائق والأحكام المتعلقة بالعقائد والعلوم اليقينية، والقصص المشيرة إلى العبر والمواعظ والأمثال المشعرة إلى الرموز والإشارات {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ} متقن في أفعاله {خَبِيرٍ} [هود: 1] يصدر عنه الأفعال على وجه الخبرة والاعتبار.
وحكم فيه {أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ} أيها المجبولون على العبادة في الفطرة الأصلية {إِلاَّ ٱللَّهَ} الواحد الأحد الصمد، الذي أوجدكم من كتم العدم باستقلاله إيجاداً إبداعياً، وقل لهم يا أكمل الرسل تبشيراً وتنبيهاً {إِنَّنِي} مع كوني من جملتكم {لَكُمْ مِّنْهُ} أي: من الله المتوحد بذاته بأمره ووحيه {نَذِيرٌ} أنذركم عما يبعدكم عن الحق، حتى لا تستحقوا عذابه وعقابه {وَبَشِيرٌ} [هود: 2] أبشركم ما يقربكم إلى جنابه، حتى تستحقوا الفوز العظيم من عنده.
{وَ} حكم فيه أيضاً {أَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ} واسترجعوا في فرطاتكم {رَبَّكُمْ} الذي أوجدكم على فطرة المعرفة والتوحيد { ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ} وتوصلوا به بعد رفع حجب الأنانية عن البين، وكشف سدل التعينات الوهمية عن العين {يُمَتِّعْكُمْ} بعد اضمحلال رسومكم وتلاشي هوياتكم في هويته بالرزق المعنوي والغذاء الحقيقي من عنده {مَّتَاعاً حَسَناً} على مقتضى نشأته وأوصافه وأسمائه وتطورات تجلياته الجمالية والجلالية {إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو الطامة الكبرى التي انقهرت دونها توهمات الأظلال وتخيلات السوى والأغيار.
{وَ} بعد تسييركم وتنزيلكم من عالم الغيب متنازلين إلى عالم الشهادة لاقتراف الحقائق والمعارف، وترجيعكم منها إليها متصادعين إظهاراً لقدرته وبسطته {يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ} أي: لؤت ويعط كلاً من ذوي العناية الموفقين على الهداية التي جبلوا لأجلها {فَضْلَهُ} أي: حقه وجزاءه، أي: قبل منهم ما اكتسبوا من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات وأقرهم في النهاية على مقر نزولا منه في الهداية {وَ} قل لهم يا أكمل الرسل إمحاضاً للنصح: {إِن تَوَلَّوْاْ} وتعرضوا وتنصرفوا أيها المجبولون على التكليف عن مقتضى إنذاري وتبشيري {فَإِنِّيۤ} في غاية إشفاقي لكم وتحنني نحوكم {أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 4] أي: نزول العذاب يوم العرض الأكبر الذي أشرقت فيه شمس الذات إلى حيث اضمحلت الأظلال والعكوس مطلقاً، ونودي من وراء سرادقات العز والجلال بلا تزاحكم الأظلال والأغيار:
{ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } واجباً أيضاً من ورائها: { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16].
واعلموا أيها الأظلال المقهورة {إِلَى ٱللَّهِ} الواحد الأحد الصمد، المتجلي في الآفاق بالاستقلال والاستحقاق {مَرْجِعُكُمْ} ورجوعكم رجوع الظل إلى ذي الظل والعكوس إلى ما انعكس منها {وَهُوَ} سبحانه في ذاته قاهر فوق عباده {عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ} من صور العذاب والانتقام {قَدِيرٌ} [هود: 4] لا يخرج عن حيطة قدرته شيء، ولا يعزب عن علمه معلوم، مما جرى عليهم من الأحوال.
{أَلا إِنَّهُمْ} أي: المحجوبون الغافلون من غاية جهلهم وغفلتهم عن الله {يَثْنُونَ} أي: يقطعون وينحرفون {صُدُورَهُمْ} عن الميل إلى الحق والتوجه نحوه طالبين {لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} أي: يستروا ويخفوا من الله ما تمكن صدورهم من الإعراض عن الحق بأوامره ورسله {أَلا} إنهم لم يعلموا ولم يتفطنوا أن الله المطلع بجميع ما جرى في ملكه يعلم منهم ما جرى عليهم وظهر منه {حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} أي: يطلبون التدثر والتغطي وقت رقودهم في مضاجعهم، بل {يَعْلَمُ} منهم {مَا يُسِرُّونَ} في ضمائرهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} بأفواههم ومشاعرهم، وكيف لا يعلم سبحانه {إِنَّهُ} بذاته وأوصافه وأسمائه {عَلِيمٌ} بعلمه الحضوري {بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} [هود: 5] وبما هو مكنون فيها من السرائر والضمائر.
{وَ} كيف يستبعد أمثال هذا من حيطة حضرة علمه؛ إذ {مَا مِن دَآبَّةٍ} تترك {فِي ٱلأَرْضِ} مثلاً {إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ} المتكفل لأرزاق مظاهره ومصنوعاته {رِزْقُهَا} أي: ما تعيش وتتقوم به {وَ} مع ذلك {يَعْلَمُ} منشأها ومصدرها في عالم الغيب، ويعلم أيضاً {مُسْتَقَرَّهَا} أي: محل قرارها وبقائها في عالم الشهادة، ومدقار ثباتها واستقرارها فيها {وَ} يعلم أيضاً {مُسْتَوْدَعَهَا} ومرجعها في عالم الغيب بعد انقضاء النشأة الأولى، وبالجملة: {كُلٌّ} من الأحوال والأطوار والنشأة الطارئة عليها بحيث لا يشذ شيء منها محفوظ مثبت {فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [هود: 6] هوحضرة علمه ولوح قضائه، فكيف تنكرون أيها المنكرون إحاطة علمه، وتستخفون منه شيئاً من مخايلكم؟!.