وبعدما انقرض أولئك الطغاة الغواة المنهمكين في الغي والضلال، المفسدين في الأرض بأنواع الإفساد والإضلال {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} حين حدث على الأرض أمثال أولئك الهالكين بل أسوأهم حالاً وأقبحهم شيمة وخصالاً وأشدهم بغضاً وشيكمة على الحق وأهله، عبدنا {مُوسَىٰ} المخصص من عندنا بتكليمنا {بِآيَاتِنَا} الدالة على توحيدنا واستقلالنا في ملكنا وملكوتنا {وَسُلْطَانٍ} أي: أبدناه من عندنا بحجة واضحة وبرهان {مُّبِينٍ} [هود: 96] ظاهر الدلالة على صدقه في دعواه عند من له أدنى مسكة.
{إِلَىٰ فِرْعَوْنَ} الذي هو رأس أهل الضلال ورئيسهم إلى حيث تبعوه بالألوهية من غاية عتوه واستكباره {وَمَلَئِهِ} المعاونين له في أمره وشأنه، ثم لما أملهنا زماناً على غروره ورفعنا قدره في هذه الدنيا مسروراً؛ تغريراً عليه {فَٱتَّبَعُوۤاْ} من على الأرض {أَمْرَ فِرْعَوْنَ} وامتثلوا بمقتضاه {وَ} الحال أنه {مَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] هادٍ إلى الحق، موصل إلى مقصد التوحيد، بل هو غار موصل إلى نار الخذلان وسعير الحرمان.
إذ هو بنفسه {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} أي: يتقدم عليهم {يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ} التي انكشفت فيها السرائر واضمحلت الأوهام {فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ} مثل إبراهيم على ماء نيل في دار الدنيا، شبه حالهم في النشاة الأخرى بحالهم في النشأة الأولى، لذلك عبر عنه بالإيراد {وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ} [هود: 98] ونار الخذلان وجحيم الحرمان.
{وَ} هم من غاية خبثهم وفسادهم {أُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ} النشاة {لَعْنَةً} دائمة مستمرة {وَ} يلعنون أيضاً {يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ} بأضعاف هذه اللعنة، وبالجملة: {بِئْسَ ٱلرِّفْدُ} أي: العون والعطاء {ٱلْمَرْفُودُ} [هود: 99] أي: المعان والمعطى رفدهم التي هي طردهم في الدارين ولعنهم في النشأتين.
{ذَلِكَ} المذكور {مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ} وأخبارهم وما جرى عليهم {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} بالوحي يا أكمل الرسل ليكون عبرة لك ولمن تبعك مشاهدة وتذكيراً {مِنْهَا} أي: من تلك القرى {قَآئِمٌ} جدرانها بلا سقوف {وَ} منها ما هو {حَصِيدٌ} [هود: 100] مدروس مندك، كالزرع المحصود، عفت آثاره واندرست أطلاله.
{وَ} بالجملة: {مَا ظَلَمْنَاهُمْ} بإهلاكهم وتخريب ديارهم {وَلَـٰكِن} هم {ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ} باتخاذ مصنوعاتنا آلهة أمثالنا مستحقة للعابدة، ظناً منهم أن آلهتهم تنفعهم لدى الحاجة وتشفعهم وقت الشفاعة {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ} أي: كفت ودفعت عنهم {آلِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ} ظلماً وزرواً {مِن شَيْءٍ} أي: شيئاً قليلاً من القضاء {لَّمَّا جَآءَ} أي: حين جاء {أَمْرُ رَبِّكَ} يا أكمل الرسل، وحين نزل عذابه وحل عقابه إياه، بل {وَمَا زَادُوهُمْ} آلهتهم حين حلول العذاب عليهم {غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101] أي: هلاك وتخسير؛ لأنهم بسبب عبادة هؤلاء صاروا مطرودين عن سعة رحمة الله وجوده.