خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يٰأَبَانَا إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ
٨١
وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلْعِيْرَ ٱلَّتِيۤ أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
٨٢
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
٨٣
وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ
٨٤
قَالُواْ تَاللهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ
٨٥
قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٨٦
-يوسف

تفسير الجيلاني

{ ٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يٰأَبَانَا إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ } بسرقته { إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } أيقنا أنه سارق، وما علمنا إلا بالمشاهدة والإحساس بأن استخرج صاع الملك من رحله، وإنا { وَ } إن كنا حفيظاً له رقيباً عليه عما يعرضه ويشينه لكن { مَا كُنَّا لِلْغَيْبِ } المستور عنا { حَافِظِينَ } [يوسف: 81] إذ لا اطلاع لنا على سره.
{ وَ } إن لم تقبل يا أبانا قولنا { سْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } أي: أهلها { ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا } لدى الحوامل وتهيئة الأسباب { وَ } أسهل من ذلك اسأل { ٱلْعِيْرَ } أي: القفل { ٱلَّتِيۤ أَقْبَلْنَا فِيهَا } إذ هم رفقاؤنا معنا حين سرق ابنك وأخذوه، مع أنا اجتهدنا كثيراً أن يؤخذ منا واحد بدله لم يقبلوا منا، وقالوا: ما نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده، وإن مضينا على مقتضى مقترحكم نكون من الظالمين بأخذ البريء بدل الجاني، مع أن يهودذا أو روبيل قد تخلف عنا خوفاً من الحدث واستحياء منك { وَ } الله يا أبانا { إِنَّا لَصَادِقُونَ } [يوسف: 82] فيما حينا لك عما جرى علينا مما تم.
ثم لما سمع تعقوب ما سمع تأسف وتأوه وبكى كثيراً { قَالَ } من أين يعرف العزيز أن السارق يؤخذ لسرقته { بَلْ سَوَّلَتْ } أي: زينت حسنت { لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } أن تفرقوا أبني عني ظلماً وزوراً كما فرقتم أخاه فيما مضى { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أي: أمري صبر جميل؛ إذ الصبر أجمل مني فيما فرطتم في ابنيَّ أيها المسرفون المفسدون { عَسَى ٱللَّهُ } المطالع بحالي وحزني بمقتضى لطفه وسعة جوده ورحمته { أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ } أي: يوسف وأخيه وكبيركم المتخلف عنكم { جَمِيعاً } مجتمعين { إِنَّهُ } سبحانه ذاته { هُوَ ٱلْعَلِيمُ } بمناجاة عباده ونيلهم إلى حاجاتم { ٱلْحَكِيمُ } [يوسف: 83] في أفعاله على مقتضى مصالح عباده.
{ وَ } بعدما سمع منهم أبوهم { تَوَلَّىٰ } وانصرف وأعرض { عَنْهُمْ } مغاضباً عليهم مشتكياً إلى ربه من أفعالهم { وَقَالَ } من شدة حزنه وكآبته وهاية ضجرته على مفارقة ابنيه: { يَٰأَسَفَىٰ } أي: يا حزني وشدة بلائي ويا حسرتي وحرقة قلبي وكبدي، وبالجملة: يا هلكتي تعالي؛ إذ لم يبقَ بيني وبينك ما يبعدني عنك ويبعدك عني { عَلَى يُوسُفَ } خصه بالذكر لأنه عمدة محبته وزبدة مودته، مع أنه يتردد في حياته ويجزم بحياة الآخرين { وَ } لما تمادى ألمه تطاول حزنه وأسفه { ٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ } كثرة { ٱلْحُزْنِ } قبل فقدان هذين الابنين وبعد فقدانهما { فَهُوَ } نفسه { كَظِيمٌ } [يوسف: 84] مملوء من الحزن والبلاء كأنه مجسم منها، متجرع الغصص والألم من بنيه.
ثم لما رأى الناس ما رأوا منه من قلة الأكل والشرب وذوبان الجسم ونقصان القوى البشرية والسهر المفرط واستمرار الأسف والحزن { قَالُواْ } متعجبين من حاله مقسمين على هلاكه: { تَاللهِ تَفْتَؤُاْ } أي: لا تزال { تَذْكُرُ يُوسُفَ } على هذا المنوال { حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً } مريضاً مهزولاً مدقوقاً مشرفاً على الهلاك { أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ } [يوسف: 85].
ثم لما بالغوا في منعه عما عليه من الكآبة والحزن والتأوه والبكاء { قَالَ } في جوابهم مستنكراً عليهم: { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي } أي: ما أبث وأنشر شكواي { وَحُزْنِي } المفرط الخارج عن التصبر { إِلَى ٱللَّهِ } المطلع لما في قلبي من الحرقة والألم؛ رجاء أن يزيل عني ما يؤذيني ويوصلني بلفطه وجوده إلى ما يسرني ويفرج عني { وَ } اعلوا أيها اللائممون المبالغون في منعي أنهي بإلهام الله ووحيه إليَّ { أَعْلَمُ مِنَ } كرم { ٱللَّهِ } وسعة جوده وفضله { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [يوسف: 86] أنت أيها اللائمون، بل إنما حملني الله وأزعجني على بث الشكوى ونشر النجوى معه وإظهار التذلل والخشوع والتضرع والخضوع نحوه، حتى لا أقنطه عن ملاقاة يوسف ولا أترك المناجاة مع الله لأجله وإن تطاولت المدة.