ثم لا تحزن يا أكمل الرسل من استهزائهم وسخريتهم معك، ولا تبال بعمههم وسكرتهم وبطرهم واستهتارهم بمالهم وجاههم {وَ} الله {لَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} أشد من اسهتزاء هؤلاء معك {فَأَمْلَيْتُ} وأملهت {لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي: المستهزئين الذين كفروا حتى انهمكوا في الغفلة وتوغلوا فيها بطرين فرحين {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} فجأة واستأصلتهم بغتة {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرعد: 32] مع أولئك؟ ومع هؤلاء أشد من ذلك.
ثم قال سبحانه: {أَ} ينسى الحساب وتيرك العقاب {فَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ} أي: مطلع محاسب ورقيب حافظ {عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ} من النفوس الخيرة والشريرة ليحيط {بِمَا كَسَبَتْ} إن خيراً فخير وإن شراً فشر {وَ} لا سيما الشر الذب {جَعَلُواْ لِلَّهِ} الأحد المنزه عن الشريك والولد {شُرَكَآءَ} فوق واحدة من أظلاله ومصنوعاته، مع أنه سبحانه تعالى عن ذلك علواً كبيراً {قُلْ} لهم تبكيتاً عليهم وإلزاماً لهم: {سَمُّوهُمْ} أي: تلك الشركاء باسماء، وصفوهم بصفات يستحقون بها الألوهية والربوبية {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ} وتخبرونه {بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلأَرْضِ} أي: بأسماء وصفات لا يعلمها في الأرض، بل لا يعلمها في السماء {أَم} سموهم {بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ} مجازاً بلا اعتبار المعنى الحقيقي فيهم، وبالجملة: هم عاجزون عن الكل ساكتون عنها {بَلْ} إنما {زُيِّنَ} وحسن {لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} وأشركوا {مَكْرُهُمْ} أي: تمويههم وتلبيسهم مع علمهم ببطلانها {وَ} مع ذلك {صُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ} أي: قصدوا إعراض ضعفاء المؤمنين عن طريق الحق، ما هو إلا من غيهم وضلالهم في أصل فطرتهم {وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ} وأراد إضلاله {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33] يهديهم ويوفقهم إلى سبيل الرشاد.
بل {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا} بغفلتهم عن معرفة الله واللذات الروحانية مع عدم شعورهم بها {وَ} الله {لَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ} حين انكشف الحال وارتفع الحجب {أَشَقُّ} وأصعب {وَ} كيف لا يكون عذاب الآخرة أشق؛ إذ {مَا لَهُم} فيها {مِّنَ ٱللَّهِ} أي: عذابه وانتقامه {مِن وَاقٍ} [الرعد: 34] أي: حافظ شفيع يشفعهم ليخفف عنهم ويحفظهم من عذابه.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته من تعقيب الوعيد بالوعد: {مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ} المتحفظون نفوسهم عن ارتكاب المعاصي والآثام، المتمثلون بما أُمروا من العقائد والأحكام {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ} لإجرائهم أ،هار المعارف والحقائق على أراضي استعداداتهم؛ لإنبات ثمرات الكشوف والشهود {أُكُلُهَا} من الرزق المعنوي والأغذية الروحانية {دَآئِمٌ} غير منقطع {وِ} كذا {ظِلُّهَا } الذي تستريحون فيه دائم غير زائل، لا انقطاع لها أصلاً كأظلال الدنيا {تِلْكَ} الجنة التي وصفت بما وصفت {عُقْبَىٰ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ} أي: عاقبة أمر المؤمنين الذين اتقوا عن محارم الله {وَّعُقْبَى ٱلْكَافِرِينَ} المصرين على ارتكاب الم عاصي والشهوات البهيمية {ٱلنَّارُ} [الرعد: 35] المعدة لهم بدل لذاتهم وشهواتهم السيئة.