خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ
١٣
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ
١٤
لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ
١٥
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي ٱلسَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ
١٦
وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ
١٧
إِلاَّ مَنِ ٱسْتَرَقَ ٱلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ
١٨
وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ
١٩
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ
٢٠
وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ
٢١
وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ
٢٢
وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ ٱلْوَارِثُونَ
٢٣
وَلَقَدْ عَلِمْنَا ٱلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا ٱلْمُسْتَأْخِرِينَ
٢٤
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
٢٥
-الحجر

تفسير الجيلاني

لذلك { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي: بالرسول المنزل إليهم { وَ } كيف يؤمن بك يا أكمل الرسل هؤلاء الكفرة؛ إذ { قَدْ خَلَتْ } مضت { سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ } [الحجر: 13] أي: سنة الله في الكفرة الماضين، أو سنة كل فرقة من أسلافهم، وهم أيضاً على أثرهم وطبقهم تقليداً لهم؟!.
{ وَ } من خبث طينتهم، وفسوقهم وغفلتهم { لَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم } أي: على هؤلاء المستهزئين المنهمكين في الغي والضلال { بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ } على خلاف العادة ليؤمنوا بك وبدينك وكتابك { فَظَلُّواْ فِيهِ } وصاروا { يَعْرُجُونَ } [الحجر: 14] يصعدون منه نحو السماء، ويستوضحون ما فيها.
{ لَقَالُواْ } من شدة غيهم وضلالهم: { إِنَّمَا سُكِّرَتْ } وحيرت { أَبْصَارُنَا } بسحر محمد وتلبيسه، وإنما فُعل بنا هذا؛ لنؤمن له، ونصدق قوله وكتابه، ونقبل دينه { بَلْ } أمرنا كذلك بلا شك وتردد؛ إذ { نَحْنُ } بمشاهدة هذا الفتح والعروج { قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } [الحجر: 15] مغبوطون مخبوطون، لبس علينا الأمر هذا الشخصُ بالسحر والشعبذة.
ثمَّ قال سبحانه امتناناً لعباده بتهيئة أسباب معاشهم: { وَلَقَدْ جَعَلْنَا } وقدرنا { فِي ٱلسَّمَاءِ بُرُوجاً } اثني عشر تدور وتتبدل فيها الشمس في كل سنةٍ شتاءً وصيفاً، ربيعاً وخريفاً، والقمرُ في كل شهر تتميماً لأسباب معاشكم، وتنضيجاً لأقواتكم وأثمَّاركم { وَزَيَّنَّاهَا } أي: حسناً نظمها وترتيبها، وهيئاتها وأشكالها { لِلنَّاظِرِينَ } [الحجر: 16] المتأملين في كيفية حركاها ودوراتها وانقلاباتها؛ ليستدلوا بها على قدرة مبدعهخا، ومتانة أمر صانعها ومخترعها إلى أن ينكشفوا بوحدة المظهر ورجوع الكل إليه.
{ وَ } مع ذلك { حَفِظْنَاهَا مِن } اطلاع { كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } [الحجر: 17] على ما فيها من السرائر والحكم المودعة.
{ إِلاَّ مَنِ ٱسْتَرَقَ } واختلس من الشياطين { ٱلسَّمْعَ } والاستطلاع من سكان السماوات، وتكلف في الصعود والرقي نحوها { فَأَتْبَعَهُ } من كمال قهر الله إياه { شِهَابٌ } جذوةُ نارٍ على مثال كوكب { مُّبِينٌ } [الحجر: 18] ظاهرٍ عند أولي الأبصار زجراً له، ومنعاً عن الاستطلاع بالسرائر.
{ وَٱلأَرْضَ } أيضاً { مَدَدْنَاهَا } أي: مهَّدناها وبسطناها { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } شامخات لتقررها وتثبيتها؛ ولتكون مقراً للمياه والعيون، ومعدناً للجواهر { وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ } [الحجر: 19] مطبوعٍ ملائمٍ، تستحسنها الطباع وتستلذ به.
{ وَ } إنما { جَعَلْنَا } وخلقنا كل ذلك؛ أي: العلويات والسلفليات؛ ليحصل { لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } تعيشون بها، وتقومون مزاجكم منها؛ لتتمكنوا وتقدروا على سلوك طريق التوحيد والعرفان الذي هو سبب إيجادكم، والباعث على إظهاركم؛ إذ ما خُلقتم وجُبلتم إلاَّ لأجله { وَ } كذا معايش { مَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } [الحجر: 20] من أخلاقكم وأولادكم، وإن كنتم تظنون أنكم رازقون لهم ظناً كاذباً، بل رزقكم وزقهم ورزق جميع من في حيطة الوجود علينا.
{ وَ } كيف لا يكون رزق الكل علينا { إِن مِّن شَيْءٍ } أي: ما من رطب ولا يابس مما يطلق عليه اسم الشيء { إِلاَّ عِندَنَا } أي: في حيطة قدرتنا ومشيئتنا { خَزَائِنُهُ } أي: مخزننات كل شيء عندنا لا ينتهي قدرتنا دون مقدور، بل لنا القدرة الكاملة بإيجاد الخزائن من كل شيء { وَ } لكن اقتضت حكتمنا أنا { مَا نُنَزِّلُهُ } ونظهره { إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [الحجر: 21] عندنا، وفي حيطة علمنا، وأجل مقدر لدينا لا اطلاع لأحد عليه؟!.
{ وَ } من بدائع حكمتنا، وعجائب صنعتنا { أَرْسَلْنَا } من مقام فضلنا وجودنا { ٱلرِّيَاحَ } الهابة ي فصل الربيع { لَوَاقِحَ } أي: ملقحات تجعل الأشجار حوامل بالأثمَّار { فَأَنزَلْنَا } بعد صيرورتها حوامل { مِنَ } جانب { ٱلسَّمَآءِ مَاءً } لتربيتها وتنميتها { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } أي: وقت الصلاح والحصاد { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ } أي: للماء { بِخَازِنِينَ } [الحجر: 22] حافظين؛ أي: ليس في وسعكم وطاقتكم حفظه في الحياض والغدائر، كذا إلقاح الأشجار وإنباتها وسقيها وإصلاحها، وجميع ما يحتاج إليها؛ إذ ليس عندكم خزائن كل شيء.
{ وَ } أيضاً من غرائب مبدعاتنا { إنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي } ونظهر على مقتضى أوصافنا اللطيفة البسيطة { وَنُمِيتُ } ونعدم على مقتضى أوصافنا القهرية القبضية { وَنَحْنُ ٱلْوَارِثُونَ } [الحجر: 23] الباقون بعد انتهاء المظاهر وفنائها بعد الطامة الكبرى.
{ وَ } من كمال علمنا وخبرتنا أنا { لَقَدْ عَلِمْنَا ٱلْمُسْتَقْدِمِينَ } المتقدمين في الوجود { مِنكُمْ } أي: من أسلافكم، بل من شئونكم ونشأتكم التي في أصلابل آباءكم وأرحام أمهاتكم، بل استعداداتكم في ذرائر العناصر، بل حصصكم من الروح الأعظم { وَلَقَدْ عَلِمْنَا ٱلْمُسْتَأْخِرِينَ } [الحجر: 24] المتأخيرين منكم في الوجود على الوجه المذكور.
{ وَ } بالجملة: { إِنَّ رَبَّكَ } يا أكمل الرسل { هُوَ } المطلع بسرائر الماضي والحال المستقبل { يَحْشُرُهُمْ } في المحشر وموعد القيامة، والحساب والجزاء، وكيف لا { إِنَّهُ } في اذته وأوصافه وأفعاله { حَكِيمٌ } متقن الفعل، متين الصنع { عَلِيمٌ } [الحجر: 25] لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء؟!.