خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
١٠٧
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ
١٠٨
لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ
١٠٩
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١١٠
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١١١
وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
١١٢
وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
١١٣
فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
١١٤
-النحل

تفسير الجيلاني

وما { ذٰلِكَ } أي: تحسينهم الكفر، واستطابتهم به إلاَّ { بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ } واستطابوا { ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا } أي: الحياة الصورية المستعارة الزائلة { عَلَىٰ } حياة { ٱلآخِرَةِ } التي هي الحياة المعنوية الحقيقية السرمدية التي لا زوال لها أصلاً { وَ } أيضاً بسبب { أَنَّ ٱللَّهَ } المطلع على استعدادات عباده { لاَ يَهْدِي } إلى الإيمان والتحيد { ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [النحل: 107] المجبولين على الكفر والعناد بحسب أصل فطرتهم واستعداداتهم.
{ أُولَـٰئِكَ } المجبولون على الكفر هم { ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ } وختم { عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } إلى حيث لا يفهمون، ولا يتفطنون بسرائر الإيمان والتوحيد أصلاً، ولا يتلذذون بلذاتها؛ لغلظ حجبهم وكثافتها { وَ } على { سَمْعِهِمْ } إلى حيث لا يسمعون، ولا يبلون دلائل التوحيد وأماراتها من أرباب الكشف واليقين { وَ } على { أَبْصَارِهِمْ } إلى حيث لا ينظرون نظر عبرة وبصارة إلى المظاهر والآثار المترتبة على الأوصاف الذاتية الإلهية { وَ } بالجملة: { أُولَـٰئِكَ } البعداء المطرودون عن عزِّ الحضور { هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } [النحل: 108] المقصورون على الغفلة والنسيان، التائهون في تيه الضلال والطغيان.
{ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ } بسبب طردهم وخذلانهم { فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ } [النحل: 109] المقصورون على الخسران والنقصانز
{ ثُمَّ } بعدما سمعت أحوال أولئك المقهورين المطرودين { إِنَّ رَبَّكَ } الذي ربَّاك بأنواع الكرامات، وأوصلك إلى أعلى المقامات يجزي خير الجزاء تفضلاً وإحساناً { لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ } عن بقعة الإمكان حين كوشفوا بما فيها من الخذلان والخسران، وأنواع الرذائل والنقصان، وذلك { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } بأنواع الفتن والمحن باستيلاء جنود الأمارة بالسوء عليهم { ثُمَّ جَاهَدُواْ } معها بترك مألوفاتها، وقطع تعلقاتها، وصرفها عن مشتهياتها ومستلذاتها { وَصَبَرُواْ } على متاعب الرياضات، ومشاق المجاهدات إلى أن صارت أماراتهم مطمئنةً راضيةً مرضيةً، ثمَّ بعدما قطعوا مسالك السلوك، ومنازل التلوين والتزلزل { إِنَّ رَبَّكَ } المفضل المحسن إليك يا أكمل الرسل، وإلى من تبعك من خيار المؤمنين { مِن بَعْدِهَا } أي: بعد المجاهدات والرياضيات { لَغَفُورٌ } يسترُ أنانيتهم، ويغنيهم عن هوياتهم مطلقاً { رَّحِيمٌ } [النحل: 110] لهم، يمكنّهم في مقام الرضا والتسليم مطمئنين مرضيين.
هب لنا من لدنك رحمةً با ذا القوة المتين.
واذكر يا أكمل الرسل المبعوث إلى كافة الأنام { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ } عاصيةٍ أو مطيعةٍ { تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } أي: ذاتها، وتهتم لشأنها بلا التفاتٍ منها إلى شفاعةٍ غيرها؛ إذ هي رهينة ما كسبت من خيرِ وشرٍ { وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ } جزاء { مَّا عَمِلَتْ } طاعة ومعصية { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [النحل: 111] في جزائهم وأجورهم لا زيادةً ولا نقصاناً على مقتضى العدل الإلهي.
{ وَ } بعدما أراد سبحانه أن ينبه على أهل النعمة، وأرباب الرخاء والرفاهية، ألاَّ يبطروا، ولا يباهوا بما في أيديهم من النعم، ويداموا على شكرها، وأداء حقها خوفاً من زوالها وفنائها، وانقلابها شدةً ونقمةً { ضَرَبَ ٱللَّهُ } المدبِّر لأمورهم { مَثَلاً } تعتبرون منها وتتعظون { قَرْيَةً } هي مكة أو أيلة { كَانَتْ } نفوس أهلها { آمِنَةً } عن الخوف من العدو والجوع من نقصان الغلات والأثمار { مُّطْمَئِنَّةً } بما عندهم من الحوائج بلا تردد ومشقة؛ إذ { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا } على الترادف والتوالي { رَغَداً } واسعاً وافراً { مِّن كُلِّ مَكَانٍ } من البلاد التي في حواليها ونواحيها.
وصاروا مترفهين متنعمين إلى أن باهوا وبطروا { فَكَفَرَتْ } أهلها { بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } الواصلة إليهم، وأسندوها إلى غير الله عناداً ومكابرةً، وخرجوا على رسول الله، وطعنوا في كتاب الله { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ } بعد خَلْعِ خِلَعِ الأمن والاطمئنان؛ أي: مسار الجوع والخوف في سائر أعضائهم وجوارحهم سريانَ أثر العذوقات، ونفورها إلى حيث لا ينجو عن أثرهما جزء من أجزاء البدن، كل ذلك { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [النحل: 112] من الكفران والتكذيب والطعن، والعناد والاستكبار.
{ وَ } كيف لا يأخذهم، ولا يذيقهم { لَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ } أفضل وأكمل من جميع الرسل مع كتابٍ أكمل وأشمل من سائر الكتب { فَكَذَّبُوهُ } أشد تكذيبٍ، وأنكروه أقبح إنكارٍ { فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ } العاجل، وهو الجدب الواقع بينهم، أو وقعة بدر { وَ } الحال أنهم في تلك الحالة { هُمْ ظَالِمُونَ } [النحل: 113] خارجون على الله، وعلى رسوله، والعذابُ الآجل سيأخذهم في النشأة الأخرى بأضعاف ما في النشأة الأولى.
وإذا سمعتم أيها المؤمنون المعتبرون من أحوال أولئك الأشقياء، المغمورين في بحر الغفلة والغرور، البَطِرين بما عندهم من اللذة والسرور، وسمعتم أيضاً أحوالهم وأهوالهم { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً } مباحاً بحسب الشرع { طَيِّباً } مما كسبتم بيمينكم على مقتضى سنة الله من خلق الأيدي والأرجل للمكاسب، أو مما اتجرتم وربحتم، وهو من الكسب أيضاً { وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ } الذي أقدركم ومكَّنكم على الكسب { إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [النحل: 114] أي: تطيعون وتقصدون عبادته برفع الوسائل والأسباب العادية عن البَيْن.