خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
٩
هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ
١٠
يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
١١
وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
١٢
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
١٣
وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٤
وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٥
-النحل

تفسير الجيلاني

{ وَ } كما يدبر سبحانه أمور معاش عباده على الوجه الأليق الأحسن بحالهم، كذلك له أن يدبر أمور معادكم، بل هي أولى للتبدير؛ لذلك { عَلَىٰ ٱللَّهِ } المصلح لأحوال عباده { قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } أي: إرشادهم وهدياتهم إلى طريق مستقيم موصل إلى توحيده؛ ليصلوا إليه، ويفوزوا بما وعدوا عنده { وَ } كيف لا يرشدهم سبحانه إلى سواء السبيل { مِنْهَا } أي: من السبيل { جَآئِرٌ } مائل منصرف عن الحق وتوحيده على مقتضى أوصافه الجلالية المذلة المضلة تتميماً للقدرة الكاملة، والسلطنة العامة الشاملة لكلا طرفي اللطف والقهر، والجمال والجلال { وَلَوْ شَآءَ } وأراد سبحانه هدايتكم { لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [النحل: 9] على مقضى تجليات الأوصاف اللطيفة الجمالية، المثمرة للّذة الدائمة، والسرور المستمر الغير المنقطعة، لكن اقتضى حكمته البالغة أن يكون جنابه رفيعاً متعالياً عن أن يطّلع عله واحد بعد واحدٍ؛ لذلك تجلى على بعض المظاهر بالأوصاف القهرية الجلالية المورثة للحزن الدائم، والألم المخلَّد.
وكيف لا يدبر سبحانه أمور عباده { هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ } وأفاض { مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً } محيياً لموات الأرض، مثل إحياء الروح الأراضي الأجساد؛ ليحصل { لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ } تشربون منه، أو تعصرونه من القصب والفواكه { وَ } يحل { مِنْهُ شَجَرٌ } أي: أنواع النباتات المستخرجة من الأرض لرعي مواشيكم؛ { فِيهِ تُسِيمُونَ } [النحل: 10] وتُسرحون دوابكم للرعي إلى أن يسمن فيؤكل.
وأيضاً { يُنبِتُ لَكُمْ } أي: لقوتكم المقوم لقوتكم المقوم لمزاجكم { بِهِ ٱلزَّرْعَ } بأنواعها؛ لتتخذوا منها أخباراً { وَٱلزَّيْتُونَ } للإدام { وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ } للتفكه والتقوت أيضاً { وَ } بالجملة: يخرج لكم به { مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } تتميماً لأمور معاشكم، وتقويماً لمزاجكم؛ لتفكروا في آلائه ونعمائه، وتتذكروا ذاته؛ كي تفوزوا بمعرفته وتوحيده { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي: إنعام هه النعم العظام المذكورة { لآيَةً } عظيمة، وبينة واضحة لائحة { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 11] أي: يستعملون عقولهم في تفكر آلاء الله ونعمائه؛ ليواظبوا على أداء شكرها.
{ وَ } من آياته سبحانه المتعلقة لتدبير أحوالكم: إنه { سَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ } لستكنوا فيه وتستريحوا { وَٱلْنَّهَارَ } لتعيشوا فيه وتكتسبوا { وَ } أيضاً { ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } لإنضاج ما تتقون، إصلاح ما تتفكهون { وَ } سخر { ٱلْنُّجُومُ } أيضاً؛ لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، حل كون كل منها { مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ } تابعاتٍ لحكمه وتقديره على تقدير النصب، أو مع أن الكل مسخرات في قبضة قضائه، يصرفها حسب إرادته ومشيئته على تقدير الرفع { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي: التسخير المذكور { لآيَاتٍ } أي: في كلٍ منها دليل واضح، وبرهان لائح { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [النحل: 12] ويستدلون من الآثار إلى المؤثر، ومن المصنوعات إلى الصانع الحكيم.
{ وَ } سخر لكم أيضاً { مَا ذَرَأَ } وخلق { لَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } أشكاله وطبعه على مقتضى أهويتكم وأمزجتكم من الحوائج المتعلقة لحظوظكم وترفهكم { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } [انحل: 13] ويتفطنون منها إلى كرامة الإنسان من بين سائر الأكوان، وإلى خلافته ونيابته عن الله.
{ وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ } لكم { ٱلْبَحْرَ } من كمال لطفه وتكريمه إياكم { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً } وهو السمك { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً } وزينة من الجواهر النفيسة { تَلْبَسُونَهَا } وتتزينون بها ترفهاً وتنعماً { وَتَرَى } أيها الرائي { ٱلْفُلْكَ } أي: السفن { مَوَاخِرَ فِيهِ } أي: جواري مشققات للبحر، مسيرات لمن فيها على الماء { وَ } ما ذلك إلاَّ { لِتَبْتَغُواْ } وتطلبوا { مِن فَضْلِهِ } وجوده ما يعينكم، ويليق بكم من الحوائج والأرباح وغير ذلك { وَ } إنما سخر سبحاه ما سخر عليكم من البرح والبحر { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل: 14] رجاء أن تواظبوا وتداوموا على شكر نعمه، وتصرفوها طلباً لمرضاته.
{ وَ } من رحمته ولطفه أيضاً { أَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ } التي هي مستقركم ومشؤكم { رَوَاسِيَ } مخافة { أَن تَمِيدَ } وتتحرك { بِكُمْ } ولا يمكن استقراركم علهيا لاضطرابها وتزلزلها؛ إذ هي في طبعها كرة حقيقية، ملقاة على الماء، مغمورة فيه، فلما ألقاها سبحانه عنايةً منه رواسي ثقالاً، صارت متفارقة الأطراف في الثقل، فاستقرت وتثبتت { وَ } أيضاً جرى لكم { أَنْهَاراً } عليها؛ كي يمكنكم الاستقساء منها لدى الحاجة { وَ } عين لكم بين الجبال الراسيات { سُبُلاً } نافذات { لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [النحل: 15] إلى ما تقصدون من البلدان البعيدة.