{أَوْ يَأْخُذَهُمْ} العذاب {عَلَىٰ تَخَوُّفٍ} وتنقص من أموالهم وأولادهم على سبيل التدريج إلى أن يستأصلهم بالمرة {فَإِنَّ رَبَّكُمْ} أيها المجترئون على الله ورسوله، المسيئون الأدب معهما {لَرَؤُوفٌ} عطوف مشفق، لا يعاجلكم بالعذاب {رَّحِيمٌ} [النحل: 47] يمهلكم ويؤخر انتقامكم رجاء أن تتذكروا وتتعظوا.
{أَ} يصرون ويستمرون أولئك المشركون المسرفون على الشرك والنفاق {وَلَمْ يَرَوْاْ} وينظروا نظر العبرة والاستصبار {إِلَىٰ} انقياد جميع {مَا خَلَقَ ٱللَّهُ} وأوجده وأظهره من كتم العدم إظهاراً إبداعياً لحكمه وأمره {مِن شَيْءٍ} من الأشياء التي {يَتَفَيَّؤُاْ} أي: يميل وينقلب {ظِلاَلُهُ} بانقلاب الشمس وحركتها {عَنِ ٱلْيَمِينِ} مرة {وَٱلْشَّمَآئِلِ} أخرى، على مقتضى اختلاف أوضاع الشمس، حال كونهم {سُجَّداً} ساجدين متذللين خاضعين، واضعين جباهم على تراب المذلة إطاعةً وانقياداً {لِلَّهِ} الواحد الأحد، المستقل في الألوهية والربوبية {وَهُمْ} في جميع حالاتهم وتقلباتهم {دَاخِرُونَ} [النحل: 48] ضاغرون ذليلون، خائفون من جلال الله وكبريائه، مستوحشون على سطوة قهره، وصولة استيلائه.
{وَ} كيف يستكبرون أولئك المشركون المنكرون عن انقياد الله وإطاعته؛ إذ {لِلَّهِ} لا لغيره من الأظلال الهالكة، والتماثيل الباطلة {يَسْجُدُ} ويتذلل طوعاً وطبعاً جميع {مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَ} كذا جميع {مَا فِي ٱلأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ} تتحرك تخرج من العدم نحو الوجود بامتدااد أظلال الأوصاف الإلهية، ورش رشحات زلال وجوده عليها {وَ} خصوصاً {ٱلْمَلاۤئِكَةُ} المهيمون المستغرقون في مطالعة جمال الله وجلاله {وَهُمْ} من غاية قربهم، وتنزههم عن العلائق المبعدة عن الله، وتجردهم عن أوصاف الإمكان مطلقاً {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49] عن عبادة الله، والتذلل نحوه، فكي أنتم أيها الهلكي الغرقى، المنغمسون في بحر الغفلة والضلال.
وإنما يسجد أولئك الساجدون المتذللون؛ لأنهم {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} القادر على الإنعام والانتقام أن يرسل عليهم عذاباً {مِّن فَوْقِهِمْ} لأنهم مقهورون تحت قبضة قدرته {وَ} لذلك {يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] ويجتنبون عما ينهون.
{وَ} كيف لا تمنعون عن إثبات الشركاء لله الواحد الأحد الصمد أيها المشركون المعاندون بعدما {قَالَ ٱللَّهُ} عز شأنه، وجل بركاته: {لاَ تَتَّخِذُواْ} أيها المكلفون بالإيمان والعرفان {إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ} مستحقين للعبادة والانقياد، فيكف الزيادة {إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ} يُعبد بالحق، يُرجع نحوه في الوقائع، ويُفوض إليه الأمور كلها، وما هو إلاَّ أنا {فَإيَّايَ} لا إلى غيري من مخلوقاتي ومصنوعاتي {فَٱرْهَبُونِ} [النحل: 51] أي: خصوني بالخوف والرجاء، وارجعوا إليّ عند هجوم البلاء، ونزول القضاء؛ إذ لا راد لقضائي إلاَّ فضلي وعطائي.
{وَ} كيف لا يُرجع إليه، ويُستغاث منه، مع أن {لَهُ} ومنه {مَا} ظهر {فِي ٱلْسَّمَٰوَٰتِ} أي: عالم الأسماء والصفات التي هي الفواعل والمفيضات المؤثرات {وَ} ما ظهر في {ٱلأَرْضِ} أي: عالم الطبيعة من الاستعدادات التي هي القوابل المتأثرات من العلويات {وَلَهُ} لا لغيره من الأسباب والوسائل العادية {ٱلدِّينُ} أي: الإطاعة والانقياد، والتوجه والرجوع {وَاصِباً} دائماً حتماً لازماً {أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ} المحيط للكل إحاطة شهود وحضور {تَتَّقُونَ} [النحل: 52] وتحذرون أيها الجاهلون بحق قدره، مع أنه لا ضار سواه، ولا نافع غيره؟!.
{وَ} واعلموا ايها المجبولون على التكليف أن {مَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ} واصلة لكم، نافعة لنفوسكم، مسرة لقلوبكم {فَمِنَ ٱللَّهِ} المصلح لأحوالكم، وصلت إليكم امتناناً عليكم وتفضلاً؛ إذ لا نافع إلاَّ هو {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ} المشوش لنفوسكم، القاسي لقلوبكم {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] تتضرعون وتستغيثون ليدفع عنكم أذاكم؛ إذ لا ضار أيضاً إلاَّ هو.
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ} بعد استغاثتكم ورجوعكم نحوه؛ إذ لا كاشف سواه {إِذَا فَرِيقٌ} أي: فجاء طائفة {مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ} الذي يدفع أذاهم، ويكشف ضربهم {يُشْرِكُونَ} [النحل: 54] له غيره من الأصنام والتماثيل العاطلة التي لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فكيف لغيرهم؟!.
وإنما فعلوا ذلك وأشركوا {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ} من النعم، ولم يقوموا بشكرها عناداً ومكابرةً، بل أسندوها إلى ما لا شعور لها أصلاً ظلماً وزوراً {فَتَمَتَّعُواْ} أيها المشركون بنا، الكافرون لنعمنا {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 55] ما تكسبون لنفوسكم من العذاب المخلد، والعقاب المؤبد.