خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
١
يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ
٢
خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٣
خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ
٤
وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
٥
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ
٦
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ
٧
وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٨
-النحل

تفسير الجيلاني

لذلك أخبر سبحانه عن إتيانه ووقوعه بالجلمة الماضوية تنبيهاً على تحقق وقوعه، فقال: { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } أي: يومه الموعود الذي انكشفت فيه السدول، ولاحت الأسرار، واترتفعت حجب التعينات والأستار، واضمحلت السّوى والأغيار، ونودي من وراء سرادقات العز والجلال بعد انقهار الكل: { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [غافر: 16]؟ وأيجب أيضاً من ورائها: { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16]، { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } أي: لا تستعجلوا وقوعه أيها المترددون الشاكون في أمره { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [النحل: 1] له من الآلهة الباطلة، ويدّعون شفاعتها لهم عند الله لدى الحاجة.
بل هو الله الاحد الأحد، الصمد الذي { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ } المقربين عنده { بِٱلْرُّوحِ } أي: بالوحي الناشئ { مِنْ أَمْرِهِ } توفيقاً وتأييداً { عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ } خلَّص { عِبَادِهِ } وهم الأنبياء والمرسلون المأمورون { أَنْ أَنْذِرُوۤاْ } أي: بأن خوفوا عباد الله المنحرفين عن استقامة صراطه، وجادة توحيده من بطشه وانتقامه إياهم، وقولوا لهم نيابةً عن الله: { أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ } يُعبد بالحق { إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ } [النحل: 2] عن مخالفة أمري وحكمي.
وكيف تشركون أيها المشركون ما لا يقدر على خلق أحقر الأشياء وأضعفها للقادر الحكيم الذي { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ } مع كمال عظمتها وفعتها { وَٱلأَرْضَ } بكمال بسطتها، وإنماخلق ما خلق، وأظهر ما أظهر ملتبساً { بِٱلْحَقِّ } أي: بانبساط نور الوجود الكائن الثابت في نفسه، وامتداد أظلال أوصافه وأسمائه عليهما، مع أنه على صرافة وحدته، وهما على عدميتهما الأصلية { تَعَالَىٰ } وتقدس { عَمَّا يُشْرِكُونَ } [النحل: 3] له شيئاً لا وجود له، ولا تحقق سوى الظلية والعكسية.
ولا سيما كيف يشركون أولئك الحمقى الضالون للقادر الذي { خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ } وأوجده على أحسن صورة، وأعدل تقويم { مِن نُّطْفَةٍ } دينَّة مهينة، لا تمييز لها أصلاً ولا شعور، وربَّاها إلى أن صار ذا رشد وتمييز وكمال، وإدراك ودارية { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ } مجادل مبالغ في امتياز الحق من الباطل، والهداية من الضلال { مُّبِينٌ } [النحل: 4] ظاهر البيان بإقامة الدلائل البراهين القاطعة، وما هي إلاَّ من تربية مبدعها وخالقها القادر المقتدر بالإرادة والاختيار؟!.
{ وَٱلأَنْعَامَ } أيضاً { خَلَقَهَا } وأوجدها طفيلاً للإنسان؛ ليكون { لَكُمْ } أيها المجبولون على الكرامة الفطرية { فِيهَا دِفْءٌ } تستدفئون به من الألبسة والأغطية المتخذة من أصوافها وأشعارها وأوبارها لدفع الحر والبرد { وَمَنَافِعُ } غير ذلك من الخباء والقباء وغيرهما { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [النحل: 5] لتقويم مزاجكم وتعديلها من لحومها وشحومها وألبانها.
{ وَ } أيضاً { لَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } وزينة وجاء بين أظهركم { حِينَ تُرِيحُونَ } وتجمعونها إلى المراح من المرعى وقت الرواح مملوءة الضروع والبطون { وَحِينَ تَسْرَحُونَ } [النحل: 6] وترسلونها إلى المرعى وقت الصباح.
{ وَ } من أعظم فوائدها أنها { تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } أي: أحمالكم التي تستثقلونها { إِلَىٰ بَلَدٍ } بعيد { لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ } أي: لم يحصل لكم بلوغها إليها لولاها { إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ } أي: بالمشقة التامة، والعسر المفرط، فخلقها سبحانه تيسيراً لكم وتسهيلاً، تتميماً لتكرمكم { إِنَّ رَبَّكُمْ } الذي ربَّاكم بأنواع اللطف والكرم { لَرَؤُوفٌ } عطوف مشفق لكم، يسهل عليكم كل عسير { رَّحِيمٌ } [النحل: 7] لكم، يوفقكم ويهيئ أسبابكم؛ لتواظبوا على أداء ما أُفترض عليكم من كسب المعارف والحقائق الرافعة لكم إلى أرفع المنازل، وأعلى المراتب.
ثمَّ أشار سبحانه أيضاً إلى ما يضركم، ويدفع أذاكم، ويرفع جاهكم تتميماً لتعظيمكم وتربيتكم، فقال: { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ } إنما خلقها وأظهرها سبحانه { لِتَرْكَبُوهَا وَ } تجعلوها { زِينَةً } لأنفسكم بين بني نوعكم { وَ } بالجملة: { يَخْلُقُ } لكم ربكم على مقتضى عمله بحوائجكم ومزيناتكم { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 8] وتأملون أنتم لأنفسهم مما يعنيكم ويعينكم في النشأة والأخرى.