خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ
٤٧
أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ
٤٨
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
٤٩
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
٥٠
وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ
٥١
وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ
٥٢
وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ
٥٣
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
٥٤
لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
٥٥
-النحل

تفسير الجيلاني

{ أَوْ يَأْخُذَهُمْ } العذاب { عَلَىٰ تَخَوُّفٍ } وتنقص من أموالهم وأولادهم على سبيل التدريج إلى أن يستأصلهم بالمرة { فَإِنَّ رَبَّكُمْ } أيها المجترئون على الله ورسوله، المسيئون الأدب معهما { لَرَؤُوفٌ } عطوف مشفق، لا يعاجلكم بالعذاب { رَّحِيمٌ } [النحل: 47] يمهلكم ويؤخر انتقامكم رجاء أن تتذكروا وتتعظوا.
{ أَ } يصرون ويستمرون أولئك المشركون المسرفون على الشرك والنفاق { وَلَمْ يَرَوْاْ } وينظروا نظر العبرة والاستصبار { إِلَىٰ } انقياد جميع { مَا خَلَقَ ٱللَّهُ } وأوجده وأظهره من كتم العدم إظهاراً إبداعياً لحكمه وأمره { مِن شَيْءٍ } من الأشياء التي { يَتَفَيَّؤُاْ } أي: يميل وينقلب { ظِلاَلُهُ } بانقلاب الشمس وحركتها { عَنِ ٱلْيَمِينِ } مرة { وَٱلْشَّمَآئِلِ } أخرى، على مقتضى اختلاف أوضاع الشمس، حال كونهم { سُجَّداً } ساجدين متذللين خاضعين، واضعين جباهم على تراب المذلة إطاعةً وانقياداً { لِلَّهِ } الواحد الأحد، المستقل في الألوهية والربوبية { وَهُمْ } في جميع حالاتهم وتقلباتهم { دَاخِرُونَ } [النحل: 48] ضاغرون ذليلون، خائفون من جلال الله وكبريائه، مستوحشون على سطوة قهره، وصولة استيلائه.
{ وَ } كيف يستكبرون أولئك المشركون المنكرون عن انقياد الله وإطاعته؛ إذ { لِلَّهِ } لا لغيره من الأظلال الهالكة، والتماثيل الباطلة { يَسْجُدُ } ويتذلل طوعاً وطبعاً جميع { مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَ } كذا جميع { مَا فِي ٱلأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ } تتحرك تخرج من العدم نحو الوجود بامتدااد أظلال الأوصاف الإلهية، ورش رشحات زلال وجوده عليها { وَ } خصوصاً { ٱلْمَلاۤئِكَةُ } المهيمون المستغرقون في مطالعة جمال الله وجلاله { وَهُمْ } من غاية قربهم، وتنزههم عن العلائق المبعدة عن الله، وتجردهم عن أوصاف الإمكان مطلقاً { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } [النحل: 49] عن عبادة الله، والتذلل نحوه، فكي أنتم أيها الهلكي الغرقى، المنغمسون في بحر الغفلة والضلال.
وإنما يسجد أولئك الساجدون المتذللون؛ لأنهم { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ } القادر على الإنعام والانتقام أن يرسل عليهم عذاباً { مِّن فَوْقِهِمْ } لأنهم مقهورون تحت قبضة قدرته { وَ } لذلك { يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [النحل: 50] ويجتنبون عما ينهون.
{ وَ } كيف لا تمنعون عن إثبات الشركاء لله الواحد الأحد الصمد أيها المشركون المعاندون بعدما { قَالَ ٱللَّهُ } عز شأنه، وجل بركاته: { لاَ تَتَّخِذُواْ } أيها المكلفون بالإيمان والعرفان { إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ } مستحقين للعبادة والانقياد، فيكف الزيادة { إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ } يُعبد بالحق، يُرجع نحوه في الوقائع، ويُفوض إليه الأمور كلها، وما هو إلاَّ أنا { فَإيَّايَ } لا إلى غيري من مخلوقاتي ومصنوعاتي { فَٱرْهَبُونِ } [النحل: 51] أي: خصوني بالخوف والرجاء، وارجعوا إليّ عند هجوم البلاء، ونزول القضاء؛ إذ لا راد لقضائي إلاَّ فضلي وعطائي.
{ وَ } كيف لا يُرجع إليه، ويُستغاث منه، مع أن { لَهُ } ومنه { مَا } ظهر { فِي ٱلْسَّمَٰوَٰتِ } أي: عالم الأسماء والصفات التي هي الفواعل والمفيضات المؤثرات { وَ } ما ظهر في { ٱلأَرْضِ } أي: عالم الطبيعة من الاستعدادات التي هي القوابل المتأثرات من العلويات { وَلَهُ } لا لغيره من الأسباب والوسائل العادية { ٱلدِّينُ } أي: الإطاعة والانقياد، والتوجه والرجوع { وَاصِباً } دائماً حتماً لازماً { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ } المحيط للكل إحاطة شهود وحضور { تَتَّقُونَ } [النحل: 52] وتحذرون أيها الجاهلون بحق قدره، مع أنه لا ضار سواه، ولا نافع غيره؟!.
{ وَ } واعلموا ايها المجبولون على التكليف أن { مَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ } واصلة لكم، نافعة لنفوسكم، مسرة لقلوبكم { فَمِنَ ٱللَّهِ } المصلح لأحوالكم، وصلت إليكم امتناناً عليكم وتفضلاً؛ إذ لا نافع إلاَّ هو { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ } المشوش لنفوسكم، القاسي لقلوبكم { فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [النحل: 53] تتضرعون وتستغيثون ليدفع عنكم أذاكم؛ إذ لا ضار أيضاً إلاَّ هو.
{ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ } بعد استغاثتكم ورجوعكم نحوه؛ إذ لا كاشف سواه { إِذَا فَرِيقٌ } أي: فجاء طائفة { مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ } الذي يدفع أذاهم، ويكشف ضربهم { يُشْرِكُونَ } [النحل: 54] له غيره من الأصنام والتماثيل العاطلة التي لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فكيف لغيرهم؟!.
وإنما فعلوا ذلك وأشركوا { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ } من النعم، ولم يقوموا بشكرها عناداً ومكابرةً، بل أسندوها إلى ما لا شعور لها أصلاً ظلماً وزوراً { فَتَمَتَّعُواْ } أيها المشركون بنا، الكافرون لنعمنا { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 55] ما تكسبون لنفوسكم من العذاب المخلد، والعقاب المؤبد.