خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً
١٨
وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً
١٩
كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً
٢٠
ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً
٢١
لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً
٢٢
وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً
٢٣
وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً
٢٤
رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً
٢٥
وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً
٢٦
إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَاطِينِ وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً
٢٧
-الإسراء

تفسير الجيلاني

{ مَّن كَانَ } منهم { يُرِيدُ } اللذات { ٱلْعَاجِلَةَ } والشهوات الفانية الزائلة { عَجَّلْنَا } وأعطيناه { لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ } أي: في النشأة الأولى ابتلاءً له، واختباراً وتلبيساً عليه واغتراراً، مطلعون على ما في سه وضميره { ثُمَّ جَعَلْنَا } وهيأنا في النشأة الأخرى { لَهُ جَهَنَّمَ } منزل الطرد والحرمان، حال كونه { يَصْلاهَا مَذْمُوماً } مشئوماً محروماً { مَّدْحُوراً } [الإسراء: 18] مطروداً مقهوراً.
{ وَمَنْ أَرَادَ } منهم بامتثال الأوامر المتعلقة لمصالح الدين، وباجتناب نواهيه { ٱلآخِرَةَ } أي: اللذة الأخروية الأبدية { وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا } أي: حق سعيها على مقتضى الأمر الإلهي { وَ } الحال أنه { هُوَ } في حال السعي والاجتهاد { مُؤْمِنٌ } موقن، مصدق بوحدانية الله، وبما جاء من عنده على رسله، بلا شوب تزلزل وتردد { فَأُولَئِكَ } السعداء المقبولون { كَانَ سَعْيُهُم } واجتهادهم في امتثال الأوامر، واجتناب النواهي { مَّشْكُوراً } [الإسراء: 19] مقبولاً مستحسناً، وعملهم مبروراً، وجزاؤهم موفوراً، وهم صاروا في دار الجزاء مغفوراً مسروراً.
{ كُلاًّ نُّمِدُّ } أي: كل واحد من الفريقين المطيع والعاصي نُيسر ونوفق على مقتضى ما يهوى ويريد { هَـٰؤُلاۤءِ } المؤمنين المطيعين، توفقهم على الطاعات، ونجنبهم عن المعاصي { وَهَـٰؤُلاۤءِ } الكافرين العاصين، نُيسر لهم ما تميل إليه نفوسهم من الأهوية الفاسدة، والآراء الباطلة؛ إذ كلٌّ ميسر لما خلق له.
كل ذلك { مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ } يا أكمل الرسل الذي ربَّاك وجميع عباده بأنواع اللطف والكرم { وَ } كيف لا ييسر لهم سبحانه، ولا يوفقهم؛ إذ لا رازق لهم سواه، ولا معطي لهم غيره؟! لذلك { مَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } [الإسراء: 20] ممنوعاً عن الكافر لكفره وعصيانه، موفوراً على المؤمن لإيمانه، بل لا يعلَّل فعل بالأعراض والأعواض مطلقاً، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد إرادةً واختياراً.
والتفاوت الجاري بين عباده إنما هو لحكمةٍ ومصلحةٍ استأثر الله به في غيبه، لا اطلاع لأحدٍ عليه؛ لذلك قال: { ٱنظُرْ } أيها الناظر المعتبر { كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ } في النشأة الأولى بالمال والجاه، والثورة والرئاسة { عَلَىٰ بَعْضٍ } مبتلى بالفقر والمسكنة، وأنواع المذلة والهوان { وَلَلآخِرَةُ } المعدَّة للذات الروحانية، والحقائق والمعارف، والمكاشفات والمشهادات { أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ } لبقاء ذاتها أبد الآباد { وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [الإسراء: 21] من فضل المستعار الفاني الزائل بسرعة.
ومتى اعتبرت أيها المعتبر، وتأملت ما فيه من العبر { لاَّ تَجْعَل } ولا تتخذ { مَعَ ٱللَّهِ } الواحد الأحد، المتعزز برداء الفردانية { إِلَـٰهاً آخَرَ } كفؤاً له، يُعبد بالحق مثله، وكيف تجعل وتأخذ ربّاً سواه؛ إذ ليس في الوجود إلاَّ هو { فَتَقْعُدَ } بعد جعلك واتخاذك إلهاً سواه خائباً خاسراً، بل { مَذْمُوماً } عند الملائكة وجميع النبيين { مَّخْذُولاً } [الإسراء: 22] عند الله يوم العرض الأكبر؟!.
{ وَ } كيف تتخذ إلهاً سواه، مع أنه { قَضَىٰ رَبُّكَ } وحكم حكماً مقطواً مبرماً { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ } أي: بألاَّ تعبدوا أيها البالغون لحد التكليف { إِلاَّ إِيَّاهُ } إذ لا مستحق للعبادة والانقياد سواه؛ إذ هو المستقل بإيجادكم وإظهاركم بلا مشاركة ومعاونة، فعليكم أن تعظّموه وتوقّروه، وتذللوا نحوه غايى التذلل والخضوع.
{ وَ } أن تسحنوا { بِٱلْوَالِدَيْنِ } اللذين هما السبب الظاهري لتربيتكم وظهوركم { إِحْسَاناً } سلساً طلقاً فرحاناً، بلا شوب المنة والأذى، سيما { إِمَّا يَبْلُغَنَّ } أي: أن يبلغن { عِندَكَ } أيها الولد { ٱلْكِبَرَ } أي: سن الكهولة، بحيث عجز عن خدمة نفسه { أَحَدُهُمَا } أي: أحد الوالدين { أَوْ كِلاَهُمَا } معاً { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ } في جميع الأحوال، سيما عند الكبر والكهولة: { أُفٍّ } أي: صوتاً شديداً دالاً على تضجرهما وردعهما { وَ } إن خرجا عن مقتضى العقل، وفعلا فعلاً يجب لك صرفهما عنه { لاَ تَنْهَرْهُمَا } ولا تقهرهما زجراً عليهام { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } [الإسراء: 23].
{ وَ } بالجملة: { ٱخْفِضْ } وابسط { لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ } والتواضع والمسكنة { مِنَ } كمال { ٱلرَّحْمَةِ } والشفقة عليهما { وَ } لا يقتصر على الخفض والشفقة الدنيوية، بل { قُل } لهما ولأجلهما مناجياً مع الله: { رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا } على مقتضى رحمتك الواسعة، وجودك الشامل { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [الإسراء: 14] أي: ارحمهما بفضلك، مثل رحمتهما وتربيتهما إياي في حال صغري وطفولتي.
فعليكم أن تكونوا في دعائهما على العزيمة الصحيحة، والمحبة الخالصة، بحيث يكون بواطنكم موافقة لظواهركم، مثل تربيتهما إياكم حالة صغركم، ولا تتمنوا موتهما في قلوبكم؛ إذ { رَّبُّكُمْ } المطلع على سرائركم { أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ } من ابتغائكم موتهما، أو برهما وتكريمهما، فالله سبحانه يعفو عنكم، ويقبل توبتكم { إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ } مصلحين ما فوّتم وأفسدتم على نفوسكم من حق تعظيمهما وتوقيرهما { فَإِنَّهُ } سبحانه من كمال جوده وفضله { كَانَ لِلأَوَّابِينَ } الرجَّاعين إليه سبحانه، النادمين بما صدر عنهم من المعاصي، سيما ما يتلعق بعقوق الوالدين { غَفُوراً } [الإسراء: 25] يغفرهم ويتجاوز عنهم.
{ وَ } لا تقتصر أيها الولد على تعظيم والديك فقط، بل عليك تعظيم كل من ينتمي إليك من قبلهما؛ لذلك { آتِ } وأعط { ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ } أي: حق تواضعهم وتوقيرهم إن كانوا إغنياء، وأنفِق عليهم إن كانوا فقراء { وَ } آت من زكاة أموالك، وفواضل صدقاتكم { ٱلْمِسْكِينَ } الذي لا يقدر على قوته وقوت عياله { وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ } أيضاً الذي يبعد عن بلده، ولس معه مؤنة معاشه، وكن في إنفاقك مقتصداً معتلاً { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } [الإسراء: 26] أي: لا تسرف إسرافاً مفرطاً خارجاً عن حد الاعتدال، سيما فيما لا يعني وينبغي؛ إذ التبذير والتقتير كلاهما مذموم عقلاً وشرعاً.
لذلك قال سبحانه: { إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ } المسرفين أموالهم رياءً وسمعةً { كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَاطِينِ } أي: أشباههم وأتباعهم في صرف الأموال الموهوبة من الله إلى غير المصرف و غير المستحق من المصارف، بل صرفوها إلى المحظورات والمكروهات، بإغواء الشياطين وإغرائهم { وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ } الغوي الطاغي { لِرَبِّهِ كَفُوراً } [الإسراء: 27] لنعم الله، فيغري أتباعه إلى الكفران أيضاً.