خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً
٢٨
وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً
٢٩
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً
٣٠
وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً
٣١
وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً
٣٢
وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً
٣٣
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً
٣٤
وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
٣٥
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً
٣٦
وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً
٣٧
كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً
٣٨
-الإسراء

تفسير الجيلاني

ثمَّ قال سبحانه: { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ } أي: إن تحقق إعراضك ومنعك عن هؤلاء المستحقين المذكورين، سيما بعدما سألوا عنك العطاء { ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ } أي: طلب رحمة وشفقة مرجوة { مِّن رَّبِّكَ } حال كونك { تَرْجُوهَا } أي: الرحمة لهم؛ لعلمك بأنهم صرفوها إلى القبائح والمعصية، فعليك أن تمنعهم وتردهم هيناً ليناً، بلا تشدد وغلظة { فَقُل لَّهُمْ } حين دفعهم: { قَوْلاً مَّيْسُوراً } [الإسراء: 28] سهلا ً إلى حيث لا ييأسوا ولا يحزنوا، مثل أن تقول: سَّل الله علينا وعليكم، ويسَّر لنا ولكم من فضله وجوده.
وبعدما نهى سبحانه عن التبذير صريحاً، والإعراض عن صرف النعمة إلى المعصية، نهى عن مطلق البخل والتبذير المذمومين تأكيداً ومبالغةً، فقال: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً } معقودة { إِلَىٰ عُنُقِكَ } بحيث لا يسع لك إعطاء شيء مما رزق الله لك على مستحقه شُحّاً وبخلاً؛ إذ هو إفراطٌ وتقترٌ { وَ } أيضاً { لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } بحيث لا قرار لك عندها أصلاً، فهذا تفريطٌ وتبذيرٌ، وكلاهما مذمومان شرعاً وعقلاً، فعليك بالاقتصاد الذي هو عبارة عن الكرم والجود، وهو صراط الله الأعدل الأقوم { فَتَقْعُدَ } بعد اتصافك بالبخل والتقتير { مَلُوماً } عند الله، وعند الملائكة والناس أجمعين، واتصفت بالتبذير والإسراف، تقعد { مَّحْسُوراً } [الإسراء: 29] نادماً متحسراً، قلقاً حائزاً في نظم معاشك.
{ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ } الصوري والمعنوي، ويوسعه { لِمَن يَشَآءُ } من عباده على مقتضى علمه بحالهم، وسعة استعدادهم، وقابلية حوصلتهم { وَيَقْدِرُ } أي: يقبض ويضيّق لمن يشاء منهم على مقتضى علمه يضيق صدرهم، وقلة تمكنهم ووقارهم؛ إذ الله الحكيم المتقن في أفعاله لا يتجاوز عن مقتضى حكمته { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ } عليماً { خَبِيراً } عن بواطنهم وصمائرهم، وما يؤول إليهم أمورهم { بَصِيراً } [الإسراء: 30] بظواهر أحوالهم، وتقلباتهم في شئونهم وتطوراتههم.
{ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ } أيها البالغون لرتبة التكليف الإلهي { أَوْلادَكُمْ } الحاصلة من أصلابكم، سواء كانوا بنين أو بنات بلا رخصة شرعية، سيما { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } أي: فقر وفاقة؛ إذ { نَّحْنُ } من سعةً جودنا، ووفور رحمتنا { نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } إذ لا رازق لكم ولهم سوانا { إنَّ قَتْلَهُمْ } إن صدر عنكم { كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } [الإسراء: 31] أي: ذنباً عظيماً.
{ وَ } عليكم أيها المؤمنون المتدرجون في مسالك التحقيق أن { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ } بترتيب مقدمات تترتب عليها تلك الفعلة القبيحة، فكيف الإتيان بها. العياذ بالله { إِنَّهُ } إي: الزنا { كَانَ فَاحِشَةً } مسقطة للعدالة، مزيلة للمروءة، مبطلة لحكمة التناسل التي هي المعرفة الإلهية؛ إذ ولد الزنا لا يبلغ مرتبة الولاية والعرفان أصلاً { وَسَآءَ سَبِيلاً } [الإسراء: 32] لقضاء الشهوة المعدَّة لسر الظهور والإظهار من لدن حكيم عليم.
{ وَ } عليكم أيضاً أيها الموحدون القاصدون إلى معارج التوحيد أن { لاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ } قتلها؛ إذ هي بيت الله، وتخريب بيته من أعظم الكبائر { إِلاَّ بِٱلحَقِّ } أي: إلاَّ برخصة شرعية من قصاص وحدٌ وردَّة، إلى غير ذلك من الأمور التي عيّنها الشرع { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً } بلا رخصة شرعية { فَقَدْ جَعَلْنَا } بمقتضى عدلنا { لِوَلِيِّهِ } أي: لمن يلي أمر المقتول بعده { سُلْطَاناً } سطوة وغلبة على القائتل الظالم مع معاونة الحكام له { فَلاَ يُسْرِف } أي: الولي المنتقم { فِّي ٱلْقَتْلِ } لقصاص المقتول المظلوم بأن يقتل غير القاتل بدله، أو يُقتل هو مع غيره، وكيف لا يُقتل الظالم بدل المقتول المظلوم { إِنَّهُ كَانَ } أي: المظلوم { مَنْصُوراً } [الإسراء: 33] عند الله، وعند جميع الخلائق؟!.
{ وَ } عليكم أيضاً أيها المتوجهون نحو الحق بالعزيمة الصحيحة، والقصد الخالص أن { لاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ } الذي لا متعهد له من الأبوين { إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } بحالهم من ازدياد أموالهم وتنميته، وحفظه وتعميره على وجه العدالة والمروءة { حَتَّىٰ يَبْلُغَ } اليتيم { أَشُدَّهُ } أي: رشده، وبلغ إلى سن التمييز والتصرف، فلكم أيها المتعهدون المتحفظون لأموال اليتامى ردها إليهم بعد اختيارهم وامتحانهم مراراً، وبالجملة: لكم أيها الموحدون الإيفاء والوفاء بالعهود والمواثيق مطلقاً، سواء كانت مما بينكم وبين الله، أو بين المؤمنين من عباده { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ } والميثاق { كَانَ مَسْؤُولاً } [الإسراء: 34] في النشأة الأخرى، وناقضة مؤاخذاً، وموفيه مأجوراً.
{ وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ } أي: عليكم أيفاء الكيل { إِذا كِلْتُمْ } لغيركم { وَزِنُواْ } أيضاً، إذا زنتم { بِٱلقِسْطَاسِ } أي: الميزان. وهو لفظ سرياني: { ٱلْمُسْتَقِيمِ } الذي لا ميل له إلى جانبٍ، بل صار كفتاه على السوية بلا ميل { ذٰلِكَ } أي: إيفاؤكم واستقامتكم في المكيال والميزان { خَيْرٌ } جالب لأنواع الخيرات في الدنيا { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [الإسراء: 35] أي: عاقبةً ومآلاً في العقبى.
{ وَلاَ تَقْفُ } أي: لا تتبع أيها المؤمن الموقن، الطالب للوصول إلى مرتبة التوحيد { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي: ما لم يتعلق علمك به تقليداً أو تخميناً؛ إذ أنت يوم الجزاء مسئول عما رُمته بلا علمٍ، وأقدمتَ عليه بأي عضو وجارحة، وقلتَهُ رجماً بالغيب { إِنَّ ٱلسَّمْعَ } قدمه، لأنه نُسبتُ إليه أكثر المفتريات والكواذب { وَٱلْبَصَرَ } لأن النفس تقع في أكثر الفتن والمهالك برؤية البصر { وَٱلْفُؤَادَ } الذي هو أصل في إنشاء الكواذب والمزروّرات { كُلُّ أُولـٰئِكَ } أي: كل واحد من القوى الثلاثة { كَانَ } يوم القيامة { عَنْهُ مَسْؤُولاً } [الإسراء: 36] فتقرُّ أولئك القوى بدما سُئل عمَّا صدرت منها من المعاصي، فيفتضح صاحبها على رءوس الأشهاد.
{ وَلاَ تَمْشِ } أيها الطالب لعدالة التوحيد والعرفان { فِي ٱلأَرْضِ } التي أعدت للتذلل والانسكار، والتواضع والخشوع { مَرَحاً } ذا كبرٍ وخيلاٍ، فكيف تختال وتتكبر أيها لمهان المخلوق من المهين { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ } بشدة قولتك ووطأتك { وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ } باستعلائك واستكبارك { طُولاً } [الإسراء: 37] أي: مدة متطاولة حتى تستعلي بها على من دونك؟! وبالجملة: لا تتكبر ولا تتجبر أيها العاجز الضعيف مع ضعفك، وقصير عمرك.
{ كُلُّ ذٰلِكَ } من النواهي المذكورة، مِنْ
{ لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } [الإسراء: 22] إلى هنا { كَانَ سَيِّئُهُ } أي: ثبت وتحقق كونه سيئة، وإنما { عِنْدَ رَبِّكَ } لذلك كان { مَكْرُوهاً } [الإسراء: 38] منهياً عنه، مبغوضاً عليه.