خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً
٥٠
أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً
٥١
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً
٥٢
وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً
٥٣
رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً
٥٤
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً
٥٥
قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ ٱلضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً
٥٦
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً
٥٧
وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذٰلِك فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً
٥٨
-الإسراء

تفسير الجيلاني

{ قُلْ } يا أكمل الرسل في جوابهم تبكيتاً لهم والزاماً: لا تستبعدوا أيها الضالون المعاندون أمثال هذا البعث والحياء عن قدرة الله في الأشياء التي عهدوا حياتهم من قبل؛ إذ لا بُعْدَ ولا غرابة فيها، بل { كُونُواْ حِجَارَةً } أبعد بمراحل عن قبول الحياة { أَوْ حَدِيداً } [الإسراء: 50] هو أشدّ بعداً.
{ أَوْ خَلْقاً } آخر مثلاً، هو { مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } ويستحيل في نفوسكم اتصافه بالحياة، فالله المقتدر بالقدرة الكاملة، والقوة الشاملة قادر على إحيائها وإيجادها، إن تعلقتْ إرادته، ومضت مشيئته على تكوينه وإظهاره، ثمَّ بعدما أُفحموا من سماع الحجة القوية، وانحسرت عقولهم عن المقابلة معها { فَسَيَقُولُونَ } مستفهمين عن تعيين الحق المبدئ المعيد على سبيل الإنكار: { مَن يُعِيدُنَا } بعد موتنا وصيرورتنا عظاماً ورفاتاً؟ { قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ } وأظهركم من كتم العدم { أَوَّلَ مَرَّةٍ } إظهاراً إبداعياً، وإيجاداً اختراعياً، بلا سبق مادةٍ ومدةٍ، فإعادتكم أهون عليه من إبدائكم وإبداعكم.
وبعدما سمعوا منك قولك { فَسَيُنْغِضُونَ } ويحركون { إِلَيْكَ } أيها المؤيَّد من عند الله لإلزام أولئك الغواة الطغاة، الهالكين في تيه المكابرة والعناد { رُؤُوسَهُمْ } على وجه الاستبعاد والاستهزاء { وَيَقُولُونَ } مستسخرين: { مَتَىٰ هُوَ } مع أن الأنبياء الماضين يدَّعون مثلك قيامها، فلم تقع بعدُ، وأنت أيضاً تدَّعى، فلا تقع، وما هي إِلاَّ مجرد الدعوى منكم ومنهم، بلا وقوعٍ ولا وروردٍ؟! { قُلْ } لهم يا أكمل الرسل: { عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً } [الإسراء: 51] أي: بعدما ختم أمر الرسالة والتشريع، وكمُل بناء الدين، قَرُبَ وقوعها.
فانتظروا أيها المؤمنون المصدقون ليوم البعث والحشر مترصدين مترقبين { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } الله للبعث والحشر { فَتَسْتَجِيبُونَ } طائعين راغبين ملتبسين { بِحَمْدِهِ } معترفين على كمال قدرته، ووفور حوله وقوته { وَ } تذكروا من طول ذلك اليوم، وشدة أهواله وإفزاعه، حيث { تَظُنُّونَ } وتعتقدون فيه { إِن لَّبِثْتُمْ } أي: ما لبثتم وأقمتم في النشأة الأولى { إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 52] أي: تستقلون وتستقصرون مدة لبثكم فيها من كثرة شدائدها وأهوالها.
{ وَقُل } يا أكمل الرسل على سبيل العظة والتذكير، وتهذيب الأخلاق، وتصفية الباطن { لِّعِبَادِي } يعني: المؤمنين الموقنين لشئوني وظهوري على سبيل جلياتي في النشأة الأولى والأخرى، إذا أرادوا إهداء التائهين في بحر الغفلة والضلال: { يَقُولُواْ } كل منهم، وقت تذكيرهم وتنبيههم رفقاً لهم، وتلييناً لقلوبهم، بالكلمة { ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } الكلمات وألينُها، وأتمُّها نفعاً، وأقربُها للقبول، لا بالتي هي أخشن وأغلظ لتكون مدخلاً للشيطان { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ } المضل المغوي { يَنزَغُ } أي: يُوقع القتنة بين المرشد والمسترشد، ويهيجها ويثيرها إلى أن أدى الأمر إلى المشاجرة والمقاتلة، وأنواع الخصومات المخلة للحكمة المقصودة من أمر النبوة والرسالة، والكلمة الغليظة كثيراً ما يفضي إليها، فيفوت الغرض الأصلي { بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ } في أصل جبلته وفطرته خُلق { لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً } [الإسراء: 53] ظاهر العداوة، ومستمر الفتنة، بحيث لا يُردى دفع عداوته أصلاً.
فلكم أيها الهادون الناصحون ألاَّ تغلطوا، ولا تخشنوا في دعوة الناس إلى طريق الحق، ولا تبالغوا أيضاً في إرشادهم وإهدائهم؛ إذ ما عليكم إلاَّ تبليغ ما أُمرتم بتبليغه، وليس في وسعكم وظاقتكم رشدهم وهدايتهم ألبتة؛ إذ هو مبين على العلم باستعداداتهم وقابليتهم، ولا علم لكم أيها الناصحون عليها، بل { رَّبُّكُمْ } الذي ربَّاكم أيها الناس المجبولون على فطرة المعرفة والإيمان { أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ } هدايتَكم { يَرْحَمْكُمْ } على مقتضى جوده، ويوفقكم على قبول الإيمان، وحصول العرفان عانيةً منه وفضلاً { أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ } أي: يبقيكم ويغويكم في تيه الحرمان والخذلان، خاسرين خائبين بمتابعة الشيطان.
{ وَ } بالجلمة: { مَآ أَرْسَلْنَاكَ } يا أكمل الرسل، وأفضل البرايا، مع أنك لولاك ما خلقت الأفلاك؛ إذ كل من في العلم منوط بمرتبتك المحيطة الجامعة { عَلَيْهِمْ } أي: على الناس { وَكِيلاً } [الإسراء: 54] أي: ليكون أمروهم موكولاً إليك، بحيث إ ذا أردت هداية بعض، وضلال آخرين، فيقع مرادك بلا خلف، بل إنما أرسلناك مبلغاً بشيراً ونذيراً، وما عليك إلاَّ البلاغ، وعلينا الإصلاح والفساد؛ إذ نحن بكمال استغنائنا عن مطلق مظاهرنا ومصنوعاتنا، مستقلون في تدبيرات أمور ملكنا وملكوتنا، وشهادتنا وغيبنا، وجبروتنا ولاهوتنا.
{ وَرَبُّكَ } يا أكمل الرسل { أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: باستعدادات الملائكة السماويين والأرضيين، وقابليات الثقلين السفليين { وَ } لعلمنا باستعدادات جميع عبادنا { لَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ } لسُنّة سنيَّة، وخصلة حميدة، مثل تفضيلنا إبراهيم باخلة، وكمال الحلم، وكثرة التأوه، وموسى بالتكليم، وعيسى بأنواع الإرهاصات والكرامات، من الارتقاء نحو السماء والتكلم في غير أوانه، ووجوده بلا أب، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بشق القمر وبالمعراج، وسليمان بالمُلك العظيم { وَ } من جملة تفضيلنا: { آتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [الإسراء: 55] مشتملاً على أنواع الحكمة، وفصل الخطاب، سيما على ألقاب خاتم الرسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وظهوره ونسخة جميع الأديان والكتب، وكون أمته أشرف الأمم، ودينه أكمل الأديان.
{ قُلِ } يا أكمل الرسل للمشركين الذين يعون آلهة غير الله، ويعبدونهم كعباددته على سبيل التعجيز والتقريع: { ٱدْعُواْ } عند نزول البلاء، وهجوم المحن والعناء، شركاءكم { ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم } آلهةً { مِّن دُونِهِ } أي: من دون الله حتى ينقذوكم من الشدة والبأس، وإن بالَغْتُمْ في الدعاء والتوجه نحوهم، الالتجاء إليهم { فَلاَ يَمْلِكُونَ } أي: لا يقدرون ولا يستطيعون وآلهتكم { كَشْفَ ٱلضُّرِّ } فيكف { عَنْكُمْ } بل عن أنفسهم { وَلاَ تَحْوِيلاً } [الإسراء: 56] أي: دفعاً وترديداً منكم إلى غيركم.
إذ { أُولَـٰئِكَ } الفقراء الضعفاء { ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ } إليهم، وتدعونهم آلهة، كالملائكة وعيسى وعزير - عليهما السلام. { يَبْتَغُونَ } ويطلبون من غاية افتقارهم واحتياجهم { إِلَىٰ رَبِّهِمُ } الذي أوجدهم وأظهرهم من كتم العدم { ٱلْوَسِيلَةَ } المقربة إليه من الأعمال الصالحة، والأخلاق المرضية المقبولة عند الله؛ ليظهر لهم { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } إليه، وأقبل عنده { وَ } مع ذلك { يَرْجُونَ } في مناجاتهم وخلواتهم { رَحْمَتَهُ } على مقتضى لطفه وفضله { وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } على مقتضى قهره وعدله { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } [الإسراء: 57] واجب الحذر لكل من دخل تحت حيطة التكليف، سواء كان نبيّاً أو وليّاً.
ثمَّ قال سبحانه: ِ{ وَإِن مِّن قَرْيَةٍ } أي: ما من قريةٍ من القرى الهالكة { إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } بالخسف والكسف، والزلزلة والطاعون وغير ذلك { أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً } كالقتل والنهب والأسر، وأنواع البليات والآذيات والمصيبات { كَانَ ذٰلِك } الإهلاك والتعذيب { فِي ٱلْكِتَابِ } الذي هو عبارة عن حضرة علمنا، ولوح قضائنا { مَسْطُوراً } [الإسراء: 58] على التفصيل الذي وقع بلا مخالفةٍ أصلاً.