خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ كَفُوراً
٦٧
أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً
٦٨
أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ ٱلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً
٦٩
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً
٧٠
يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً
٧١
وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً
٧٢
وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً
٧٣
وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً
٧٤
إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً
٧٥
-الإسراء

تفسير الجيلاني

{ وَ } مما ارتكز في نفوسهم ورسخ في قلوبكم، أنكم { إِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ } بأن عرض لمركبكم ما يوجب كسرها وغرقها، وصرتم فيها حيارى سكارى، بحيث { ضَلَّ } وغاب عنكم { مَن تَدْعُونَ } وتستغيثون منه لو كنتم في البر، وما معكم من الأمتعة والبضاعات { إِلاَّ } استعانتكم واستغاثتكم { إِيَّاهُ } سبحانه، فإنه بذاته لا يغيب عنكم، ولا يفارقكم؛ إذ هو أقرب إليكم من حبل وريدكم { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ } وخلّصكم سبحانه من تلك المضائق الهائلة { إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ } عنه سبحانه، وصرتم متعلقين بما معكم من الأمتة والأعراض { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ } في أصل فطرته خُلق { كَفُوراً } [الإسراء: 67] لأنعم الله { هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً } [المعارج: 19-20] نحو الحق { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ } كفوراً { مَنُوعاً } [المعارج: 21] معرضاً عنه منكراًً له.
{ أَ } أعرضتم عنه سبحانه بعد إنجائه وصلاخه إياكم { فَأَمِنْتُمْ } عنه قهره وسخطه حين وصلتم إلى البر، مع أنه سبحانه قادراً على إهلاككم من البر أيضاً، أما تخافون { أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرِّ } أي: يقلب عليك الأرض كما خسفها على قارون { أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ } ريحاً شديداً { حَاصِباً } ترميكم وترجمكم بحجارة كما رجمنا قوم لوط { ثُمَّ } بعدما أخذناكم في البر بأمثال هذه البليات { لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } [الإسراء: 68] حفيظاَ يحفظكم عن أمثال هذه المصيبات، أو يشفع لكم بتخفيفها وكشفها.
{ أَمْ أَمِنْتُمْ } أيها القاصرون عن إدراك قدر الله، وكما قدرته { أَن يُعِيدَكُمْ } ويلجئكم إلى الرجوع { فِيهِ } أي: في البحر { تَارَةً أُخْرَىٰ } بأسباب ووسائ لا تخطر ببالكم { فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ } في الكرة الأخرى لأخذكم وانتقامكم { قَاصِفاً } كاسراً { مِّنَ ٱلرِّيحِ } لتكسر مركبكم { فَيُغْرِقَكُم } فيه { بِمَا كَفَرْتُمْ } في اللكرة الأولى { ثُمَّ } بعد إرجاعنا إلى البحر، وإغراقنا فيه على نحو إنعامنا وإنجائنا ن قبل { لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } [الإسراء: 69] أي: لا تجدوا ناصراً ومعيناً لكم، فيظهر علينا بأخذكم وانتقامكم، ويطالب منا قصاص ما فعلنا بكم؛ إذ لا رادّ لفعلنا، ولا معقب لحكمنا، نفعل ما نشاء ونحكم ما نريد.
ثم قال سبحانه على سبيل الإنعام والامتنان: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا } وفضلنا { بَنِي ءَادَمَ } بأنواع الكرامة والتفضيل على سائر المخلوقات من حسن الصورة والسيرة واعتدال المزاج، واستواء القامة، والعقل المفاض المتشعب من العقل الكل الذي هو حضرة العلم الحضوري الإلهي، وكذا بالقدرة والإدارة، وسائر الصفات المترتبة على الصفات الذاتية الإلهية يشعر بخلافته ونيابته { وَ } مع ذلك { حَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ } بركوب النجائب من الخيل والبغال والبعير وغير ذلك، { وَ } في { ٱلْبَحْرِ } بركوب الجواري والسفن { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } أي: الأطايب التي يكسبونها بأيديهم على مقتضى إقدارنا إياهم، وإعدادنا أسباب مكاسبهم معهم، وأبحنا لهم ما تستلذ به نفوسهم وتشتهي قلوبهم على وفق ما نطق به رسلهم وكتبهم.
و{ وَ } بالجملة { فَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [الإسراء: 70] والقليل المستثنى هم الملائكة المقربون المهيمون المستغرقون بمطالعة جمال الله وجلاله، وإن كان الوالهون الهائمون من الإنسان في ولاء الله ومحبته، المكاشفون بسر الخلافة والنيابة التي أخبر بها الحق، الواصلون إلى مرتبة الفناء بالموت الأرادي، أفضل منهم أيضاً، وأرفع رتبة ومكانة.
وإنما كرمناهم وفضلناهم بما فضلناهم؛ لحكمةٍ ومصلحة تقتضيها ذاتنا، وهي أنَّ نريد أن نطالع ذاتنا المتصفة لجميع أوصاف الكمال ونعوت الجمال والجلال في مظهر تام كامل لمراتبنا وخلافتنا، وكرّمناه لأجل هذه الحكمة العزيزة، فمن لم يبلغ منهم إلى هذه المرتبة العلية والدرجة السنية بسلوكه الذي أرشدناه وعلمناه بإرسال الرسل وإنزال الكتب فه ونازلً كل التنازل عن درجة الاعتبار، ساقطُ عن رتبة ذوي الألباب والأبصار.
بل أولئك البعداء الضالون عن منهج الرشاد كالأنعام بلا شعور إلى ما جبلوا لأجله، بل أضل سبيلاً منها وأسوأ حالاً ومآلاً،
{ مَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [النور: 40].
اذكر يا أكمل الرسل للمكرمين المفضلين على سائر المخلوقات: { يَوْمَ نَدْعُواْ } نحشر { كُلَّ أُنَاسٍ } منهم؛ لنسألهم، ونطلب عنهم ما اكتسبوا، وحصَّلوا من المعارف والحقائق والأعمال المقربة إلينا باقتدائهم { بِإِمَامِهِمْ } الذي نرسل إليهم، وننزل ع ليه من الرسل والكتب؛ لإرشادهم وإهدائهم مع أنا كتبنا منهم خيرهم وشرهم اللذَّين جاء كل منهم بهما في صحيفةٍ، ونعطيهم اليوم صحائف أعمالهم { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ } منهم { بِيَمِينِهِ } فهو دليل خيرية أعماله وطيب أحواله { فَأُوْلَـٰئِكَ } المقبولون { يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ } فرحين بما فيها مسرورين، فيجازون على مقتضى ما كُتب بل أضعافها وآلافها، عنايةً منَّا وفضلاً { وَ } هم { لاَ يُظْلَمُونَ } ولا ينقصون من أجور أعمالهم { فَتِيلاً } [الإسراء: 71] مقدار ما في ظهر النواة من الخط الأسود أو بين الأصابع من الوسخ المفتول.
{ وَ } من أوتي كتابه بشماله فهو علامة شرّية أعماله، ورخامة حاله ومآله، فأولئك الأشقياء المردودون ينظرون إلى كتابهم، فيجدون ما فيها من أنواع المعاصي والآثام، فيغمضون عيونهم عن قراءتها آيسين محزونين، فيجازون على مقتضى ما كتب مثلاً بمثل عدلاً منه سبحانه؛ إذ { مَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ } النشأة { أَعْمَىٰ } عن مطالعة آثار الأوصاف الذاتية الإلهية، وملاحظة عجائب صنعه وغرائب حكمته وبدائع تجلياته وتطوراته لحظة فلحظة { فَهُوَ فِي } النشأة { ٱلآخِرَةِ } أيضاً { أَعْمَىٰ } إذ النشأة الأولى مزرعات الخيرات، والأخرى وقت حصاده، فمن لم يزرع فيها، فهو وقت الح صاد خاسر مغبون أعمى عن وجدان الخيرات { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [الإسراء: 72] لفوات أسباب التدارك والتلافي عنه، فيبقى متحيراً مدهوشاً قلقاً حائراً ضالاً مستوحشاً.
ثم قال سبحانه مخاطباً لحيبيه على وجه التنبيه والتأديب بعدما ظهر عليه مخايل الميل والركون عن الحق بمخادعة أهل الكفر والنفاق: { وَإِن كَادُواْ } أي: أنهم؛ أي: الكفرة قاربوا { لَيَفْتِنُونَكَ } يا أكمل الرسل، ويوقعونك في الفتنة الشديدة يالميل والصرف { عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } وأنزلنا في كتباك من الأوامر والنواهي والأحكام المتعلقة بتهذيب الظاهر والباطن، ويرغبونك { لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } أي: غير ما أوحينا إليك { وَإِذاً } أي: حين افترائك وانتسابك إلينا غير ما أوحينا إليك من الأمور التي تشتهيها نفوسهم وترتضيها قلوبهم { لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } [الإسراء: 73] وآمنوا بك بواسطة انتسابك هذا.
نزلت في ثقيف حين قالوا: لا نؤمن بك حتى تخصنا بخصالٍ نفتخر ونباهي على سائر العرب، لا نضن ولا نُحشر ولا نُجبي في صلواتنا، وكّل رِباً لنا فهو لنا، وكل رِباً علينا فهو موضوع عنَّا، وأن تمتعنا باللات سنة، وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة، فإن قالت العرب: لم فعلت معهم هذا؟ فقل: إن الله أمرني وأوصاني بها، وانتظر أن تنزل آية فيها، فإن فعلتَ بنا هذه نؤمن بك ونصدقك ونتخذك خليلاً، فتردد صلى الله عليه وسلم وقرب أن يميل ويركن لشدة ميله إلى إيمانهم واتِّباعهم، فجاء جبريل عليه السلام فمنعه عن هذا الرأي.
لذلك قال سبحانه: { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } أي: ولولا إثباتنا وتثبيتنا إياك يا أكمل الرسل في مقر صدقك وتمكينك { لَقَدْ كِدتَّ } وقربت { تَرْكَنُ } وتميل { إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } [الإسراء: 74] أي: صوت في صدد الميل والركون إلى إنجاز ما أرداوا.
{ إِذاً } أي: حين إنجاحكم سُؤْلهم ومأمولهم { لأذَقْنَاكَ } في نشأتك هذه { ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ } أي: ضعف عذاب من جاء بمثله في النشأة الأولى { وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ } أي: ضعف عذاب من جاء بمثله في النشأة الأخرى؛ يعني: نعذبك في الدنيا والآخرة بعضف عذاب من جاء به من سائر الناس؛ لأن جزاء الأبرار لو أتوا بالمعاصي والآثام ضعف جزاء الأشراء، بل أكثر؛ إذ لا يتوقع منهم الانصراف عن منهج الرشاد أصلاً، ولو انصرفوا أُخذوا بضعف من يتوقع منهم الانحراف والانصراف { ثُمَّ } بعد أخذنا إياك انتقامنا منك { لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً } [الإسراء: 75] أي: لا تجد ظهيراً لك نصيراً يظهر علينا بنصرتك، ويطالبنا بإنقاذك عن عذابنا.