خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً
٢٨
وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً
٢٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً
٣٠
أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى ٱلأَرَآئِكِ نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً
٣١
وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً
٣٢
كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً
٣٣
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً
٣٤
-الكهف

تفسير الجيلاني

فقال سبحانه مؤدباً له مقرعاً: { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ } أي: إن التمس قرشيُ من إبعاد الفقراء، وبالغوا في طردهم وذبّهم عن صحيتك، لا تُجبهم ولا تُنجح مطلوبهم، بل اصبر ووطّن نفسك المائلة إلى غنائهم وصفاء زيّهم ولباسهم { مَعَ } الفقراء { ٱلَّذِينَ } شأنهم أنهم { يَدْعُونَ } ويعيدون { رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ } أي: طرفي النهار وما بينهما { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } ويتوجهون نحوه مخلصين بلا ميلٍ منهم إلى الهوى ومزخرفات الدنيا مع غاية فقرهم وفاقتهم { وَلاَ تَعْدُ } أي: لا تملِ ولا تُصرف { عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } لرثاثة حالهم وخلقِ ثيابهم إلى الأغنياء وزّيهم البهيّ حال كونك { تُرِيدُ } وتقصد { زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } بالالتفات إليهم، والميل إلى مصاحبتهم ومجالستهم، والركون إلى جاههم وثروتهم { وَلاَ تُطِعْ } ولا تنفق معهم في طرد الفقراء بمجرد ميلك إيمانك أولئك الأغنياء البعداء عن روح الله ورحمته، ولا تلتفت التفاتَ متحننٍ متشوقٍ إلى { مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } وختمنا عليه بالإعراض { عَن ذِكْرِنَا } ختماً لا يرتفع عنه أصلاً { وَ } لذا صار من العتو والعناد إلى أن { ٱتَّبَعَ هَوَاهُ } واتخذه إلهاً، واجتنب عن مولاه وبنذه وراءة { وَكَانَ أَمْرُهُ } في الاتباع والاتخاذ { فُرُطاً } [الكهف: 28] ميلاً وتقدماً نحو الباطل، وإعراضاً عن الحق ونبذاً له وراءه ظهرياً.
{ وَقُلِ } على سبيل المثال الإرشاد والتبليغ بلا مراعاةٍ ومداهنةٍ { ٱلْحَقُّ } الصريحُ الصحيحُ الثابتُ ما نزل ونشأ { مِن رَّبِّكُمْ } الذي أنشأكم وأظهركم من كتم العدم وأصلح حالَكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وبلّغْ ما أوحي إليك بلا تبديلٍ وتغييرٍ؛ إذ ما عليك إلا البلاغ والتبليغ { فَمَن شَآءَ } منهم الفوز والفلاح { فَلْيُؤْمِن } بالله وكتب ورسله على مقتضى ما بلغَّتَ { وَمَن شَآءَ } منهم الوبالَ والنكالَ في الداري { فَلْيَكْفُرْ } فاعلم أنه سبحانه لا يبالي بكفرهم وإيانهم؛ إذ هو منزهُ عن إيمان عباده وكفرهم.
ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والتنبيه: { إِنَّا } من مقام علدنا وقهرنا من أعرض عنا من عبادنا وانصرف عن مقتضى أوامرنا ونواهينا { أَعْتَدْنَا } وهيأنا سبيما { لِلظَّالِمِينَ } الخارجين عن مقتضيات أحكامنا { نَاراً } ذاتتَ التهابٍ واشتعالٍ إلى حيث { أَحَاطَ } أي: احتوى واشتمل { بِهِمْ سُرَادِقُهَا } أي: لهبُها التي هي كالفسطاط في الإحاطة والشمول، والفسطاطُ: المتخذُ من الشعر { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ } من شدة العطش ونهاية حرقة الكبد والزفرة { يُغَاثُواْ } ويُجابوا { بِمَآءٍ } في اللون { كَٱلْمُهْلِ } وهو الحديدُ المذابُ، وفي الحرارة إلى حيث { يَشْوِي ٱلْوجُوهَ } ويحرقها وقتَ تقريبه إلى الفم للشرب.
وبالجملة: { بِئْسَ ٱلشَّرَابُ } شرابُ المهل { وَسَآءَتْ } جهنم وأوديتها المملوءة بنيران الحرمان والخذلان { مُرْتَفَقاً } [الكهف: 29] منزلاً ومسكناً، تسكنون فيها أبداً مخلداً.
ثم اتبع سبحانه الوعيد بالوعد على مقتضى سنته المستمرة، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بوحدة ذاتنا وكمال أوصافنا وأسمائنا، وبإرسالنا الرسل، وإنزالنا الكتب المبينة الموضحة لأحكامنا الصادر منا على مقتضى الأزمان والأدوار { وَ } مع الإيمان والإذعان { عَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } المأمورةِ لهم في الكتب وألسنة الرسل، واجتنبوا عما نهيناهم عنها، فجزاؤهم علينا نجازيهم ونضاعف لهم بأضعاف ما يستحقون بأعمالهم وإخلاصهم فيها { إِنَّا } من مقام فضلنا وجودنا { لاَ نُضِيعُ } ونهمل { أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [الكهف: 30] وأخلص نيةً، وأتم قصداً وأكلم عزيمةً.
{ أُوْلَـٰئِكَ } السعداء المحسنون المخلصون { لَهُمْ } في النشأة الأخرى { جَنَّاتُ عَدْنٍ } أي: متنزهاتُ إقامةٍ وخلودٍ من مراتب العلم والعين والحق، ومع ذلك { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ } أي: أنهار المعارف والحقائق، متجددةً بتجددات التجليات الإلهية والنّفَسات الرحمانية المترشحة من رشاشات بحر الذات الأزلية الأبدية، ومع ذلك { يُحَلَّوْنَ } ويزينون { فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ } وخلاخل متخذةٍ { مِن ذَهَبٍ } جزاء ما هذَّبوا أخلاقهم وجوارحه بمقتضى الأوامر الإلهية في النشأة الأولى { وَيَلْبَسُونَ } فيها { ثِيَاباً خُضْراً } مصنوعةً { مِّن سُنْدُسٍ } وهو ما رقَّ من الديباج { وَإِسْتَبْرَقٍ } هو ما غلظ منه جزاء ما يتصفون في النشأة الأولى بزي التقوى ولباس الصلاح.
ومن كمال تنعمهم وترفههم يكونون { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى ٱلأَرَآئِكِ } والسررِ، متمكنين عليها جزاء ما حملوا من المتاعب والمشاق في مواظبة الطاعات وملازمة العبادات، وبالجملة: { نِعْمَ ٱلثَّوَابُ } والجزاء جزاءُ أهل الجنة وثوابهم { وَحَسُنَتْ } المتنزهات الثلاثة { مُرْتَفَقاً } [الكهف: 31] يرتفقون وينتفعون فيها أهل الكشف والشهود، بما لا عينُ رأت ولا أذنُ سمعت ولا خطرَ على قلب بشر.
ثم أمر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم بضرب المثل لتوضيح حال المؤمن والكافر، ومآل أمرهما فقال: { وَٱضْرِبْ لهُمْ } يا أكمل الرسل { مَّثَلاً } بيَّناً موضِّحاً كان { رَّجُلَيْنِ } من بني إسرائيل هما أخوان؛ أحدهما مؤمنُ موحدُ، والآخر كافرُ مشرك مات أبوهما، وورثا منه أموالاً عظاماً فاقتسما، فصرف المؤمن ماله في سبيل الله وأنفق للفقراء واليتامى وأبناء السبيل، واشترى الكافر مكاسبَ ومزارع وكثر ماله إلى أن { جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا } أي: للكافر ابتلاءً له واختباراً { جَنَّتَيْنِ } بستانين { مِنْ أَعْنَابٍ } وكرومٍ { وَحَفَفْنَاهُمَا } أي: أ؛طنا كلاً منهما { بِنَخْلٍ } لتزيد حسناً وبهاءً { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا } أي: بين الجنتين { زَرْعاً } [الكهف: 32] مزرعاً ومحرثاً للحبوب والأقوات من الحنظة والشعير وغيرهما.
{ كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ } كملتا إلى أن { آتَتْ } وأثمرت كل منهما { أُكُلَهَا } ثمرتها كاملةً وافرةً في كل سنةٍ { وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً } أي: لم تنقص ثمرتها وحاصلهما من كل منهما شيئاً من النقصان كما هو المعهود في سائر البساتين، فإن ثمرها يتوفر في عامٍ وينقص في أخرى { وَ } مع ذلك { فَجَّرْنَا } وأجرينا { خِلالَهُمَا } أي: أوساط الجنتين { نَهَراً } [الكهف: 33] سقيهما.
{ وَ } مع تينك الجنتين المذكورتين { كَانَ لَهُ ثَمَرٌ } أي: اموالُ عظامُ وأمتعةُ كثيرةُ من أنواع الأجناس والنقود والجواهر والعبيد وغير ذلك، { فَقَالَ } الآخر الكافر يوماً على سبيل البطر والمباهاة { لِصَاحِبِهِ } أي: للأخ المؤمن { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } ويخاطبه بعض الأموال والزخارف عليه، ويشنّع عليه، ويعيره ضمناً، ويقرّعه تقريعاً خفياً، إلى أن بطراً: { أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً } وبالأموال تقتضي الأماني، وتنال اللذات والشهوات { وَأَعَزُّ نَفَراً } [الكهف: 34] أبناءً وعشائر وأحشاماً وخدمةً يظاهرن ويعانون عليّ لدى الحاجة، ويجالسون ويصاحبون معي في الحضر والسفر.