خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً
٥٤
وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً
٥٥
وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً
٥٦
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً
٥٧
وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً
٥٨
وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً
٥٩
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَٰهُ لاۤ أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً
٦٠
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ سَرَباً
٦١
-الكهف

تفسير الجيلاني

{ وَ } كيف يجدون مصرفاً سواها، ومن أين يتأتى لهم الانصراف اليوم؛ إذْ هم فوَّتوا على أنفسهم المصرف، وسبب الانصراف في النشأة الأولى مع أنا { لَقَدْ صَرَّفْنَا } وكررنا { فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ } المرشد إلى الهداية، الصارفِ عن الضلالة والغواية { لِلنَّاسِ } المنهمكين في الغفلة والنسيان { مِن كُلِّ مَثَلٍ } أي: من كل شيءٍ مثلاً موضحاً ينبههم إلى الهدى، ويجنبهم عن الغفلة والهوى، فلم ينتبهوا ولم يتفطنوا بل قابلوا الباطلَ بالحق وجادلوا { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ } المجبول على النسيان والكفران { أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } [الكهف: 54] أي: جداله ومكابرته أكثر من جدال سائر المخلوقات، وأن رشده وإيمانه أكثر أيضً منها أيضاً.
ثم قال سبحانه: { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ } عن الإيمان وصَرَفهُم { أَن يُؤْمِنُوۤاْ } أي: يوقنوا ويصدّقوا { إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ } أي: النبيُ الهادي المؤيدُ بالكتاب المعجز المرشد { وَ } صرفهم أيضاً أن { يَسْتَغْفِرُواْ } ويتوبوا عن ظهر القلب عقيبَ كل معصيةٍ، نادمين عنها بلا إصرارٍ وإدمان؛ ليسقط عنهم الأخذ والانتقام { رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ } ويحيط بهم { سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ } من الإهلاك والاستئصال بغتةً { أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً } [اكهف: 55] أي: أنواعاً وأصنافاً منه، مترادفةً متواليةً كالكسف والخسف والمسخ وغير ذلك، فيهلكهم على سبيل التدريج.
{ وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ } بأنواع الفتوحات والفيوضات الروحانية، والكشوفات والشهودات اللدنية النورانية { وَمُنذِرِينَ } عن أنواع العذاب والعقاب والنكبات، والبليات المورثة لأنواع الخذلان الخسران والطرد والحرمان والخلود في النيران إصلاحاً لأحوال الأنام، وإرشاداً لهم إلى دار السلام، وحثاً لهم إلى سلوك طريق التوحيد المنجي عن ظلمات الشكوك والأوهام.
{ وَ } مع ذلك { يُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بالله ورسله، ويخاصمون معهم متشبثين { بِٱلْبَٰطِلِ } الزائغ الزائل { لِيُدْحِضُواْ } أن ينزعوا { بِهِ ٱلْحَقَّ } ويزلقوا الثابت المستقر المطابق للواقع عن مقره { وَ } لذلك { ٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَٰتِي } الدالة على عظمة ذاتي، ووفور حكمتي، وكمال قدرتي وقوتي { وَمَآ أُنْذِرُواْ } أي: ما اشتملت عليه من الإنذارات والتخويفات وأنواع الوعيدات { هُزُواً } [الكهف: 56] أي: موضع استهزاءٍ وسخريةٍ، ومحلَ هزلٍ وضحكةٍ؛ لذلك نسبوها إلى ما لا يليق بشأنه من السحر الشعر والأساطير الكاذبة، وغيرها من أنواع الهذيانات والأباطيل الزائغة افتراءً ومراءً.
{ وَمَنْ أَظْلَمُ } على الله وأسوأ أرباباً لنسبته إليه سبحانه { مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ } ليتعظ بها ويصلح بسببها { فَأَعْرَضَ عَنْهَا } وانصرف من سماعها، فكيف عن قبولها امتثالها استنكاراً واستكباراً { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ } أي: كسبت واقترفت { يَدَاهُ } من الجرائم والآثام وأنواع الكفر والشرك والطغيان، ولو اتعظوا به وعملوا بمقتضاها لذهبت سيئاتهم وتضاعفت حسناتهمه، وكيف يتذكرون بها ولا يمكنهم التذكر { إِنَّا } بمقتضى قهرنا وسُخْطِنا عليهم { جَعَلْنَا } أي: طبعنا وختمنا { عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } التي هي وعاء التذّكر والقبول { أَكِنَّةً } حُجباً غليظةٌ كثيفةً مانعةً { أَن يَفْقَهُوهُ } أي: القرآن ويفهموا معانية ومقاصده، فكيف بغوامض رُموزه وإشاراته { وَ } ختمنا أيضاً { فِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً } صمماً بمنعهم عن الاستماع والإصغاء إليه، فيكف عن فهمه والعمل به.
{ وَ } من غلظ غشاوتهم، وشدة قساوتهم وصممهم { إِن تَدْعُهُمْ } يا أكمل الرسل { إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ } وترشدهم إلى الفلاح والفوز بالنجاح { فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ } ويفوزوا { إِذاً } أي: حين ختم قولبهم ووقر صماخهم { أَبَداً } [الكهف: 57] في أي حالٍ من الأحوال؛ إذ لا يُعارض فعلنا ولا يُبدَّل قولنا إلا بأمرنا وتوفيقنا.
وتكذيبهم الرسل والكتب، وإصرارُهم على الكفر والشرك، وإن كان يستدعي نزول العذاب عليهم فجأةً لاستخفافهم بنزوهل إلا أنه يمهلهم { وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ } المبالغ في ستر ذنوب عباده وعيوبهم؛ لأنه { ذُو ٱلرَّحْمَةِ } الوسعة والحكمة الكاملة لعلهم يتنبهوا بقبح صنيعهم، ويتأملوا في وخامة عواقبهم، فانصرفوا عما هم عليه نادمين؛ إذ { لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ } على الفور، لكنْ أمهلهم بمقتضى رحمته وحكمته زماناً لا دواماً رجاء أن يتوبوا، ويرجعوا حوه تائبين آيبين { بَل لَّهُم } أي: بل لهلاكهم { مَّوْعِدٌ } لا نفع فيه التلافي والتوبة، وهو يوم الحشر والجزء، وقيل: يوم بدر { لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } [الكهف: 58] منجيّ ومَخْلصاً بل يُعذبون ويُهلكون فيه حتماً، بحيث لا يسع لهم التقدم والتأخر أصلاً.
{ وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ } التي في مرآك أطلالهم، وآثار منازلهم ومزارعهم { أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ } أي: حين خرجوا عن مقتضى حدودنا وأوامرنا ونواهينا المنزلة في كتبنا لرسلنا وكذبوهم وأنكروا عليهم { وَ } من سنتنا القديمة أنَّا متى أردنا إهلاك قريةٍ من المستوجبين للمقت والهلاك { جَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم } أي: هلاكهم وإهلاكهم { مَّوْعِداً } [الكهف: 59] وقتاً معيناً حين وصلوا إليها هلكوا حتماً مقضياً؛ إذ لا مردّ لقضائنا المبرم، ولا معقّب لحكمنا المحكم.
{ وَ } اذكر يا أكمل الرسل قصة موسى الكليم عليه السلام وإعجباه لنفسه حين خطب على المنبر بعد هلاك القبط، ودخوله ملك مصر خطبةً عجيبةً بليغةً إلى حيث رقّت القلوب وذرفت العيون، فقيل له، هل في الأرض أعلم منك؟
قال: لا.
فعتب عليه سبحانه لإعجابه، فقال سبحانه: "إن لنا في مجمع البحرين عبداً هو أعلم منك".
فقال موسى عليه السلام: دلني عليه يا ربي؛ لأخدمه وأتعلم منه، وأستفيد من فتوحات أنفاسه الشريفة.
فقال له سبحانه: "خذ حوتاً مملوحاً يكون زاداً لك واطلبه، فحيث فقدت الحوت فهو ثمة" فأخذ ومضى على الوجه المأمور.
اذكر وقت: { إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَٰهُ } وهو يوشع بن نون، وكان خادمه { لاۤ أَبْرَحُ } أي: لا أقعد ولا أستريح من السفر { حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ } ملتقى بحر فارس والروم. وأجد عنده من دلني الله عليه { أَوْ أَمْضِيَ } وأسير { حُقُباً } [الكهف: 6] زماناً طويلاً ومدةً مديدةً إن لم أجده هناك حتى أجده وأستفيد منه، فرمى الحوت المشوي المملوح في مكتلٍ، وحمله يوشع فذهبا، وأوصى موسى لفتاه متى فقدت الحوت أخبرني.
{ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } أي: بين البحرين { نَسِيَا } عند المجمع { حُوتَهُمَا } يعني: نسي موسى التفقد والاستخبار من يوشع عنه، ونسي يوشع أن يذكر لموسى ما رأى من أمر الحوت وحياته ووقوعه في الماء.
وذلك أنه عزم يوشع التوضؤ عند المجمع، وكان على شاطئ البحر صخرةُ، فتمكن يوشع عليها ليتوضأ، فانتضح الماء على مكتله، فترشح على الحوت، فوثب من المكتل، ورمى نفسه في البحر { فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ سَرَباً } [الكهف: 61] أي: صار الماء كالطاق يسري الحوت تحته بسهولةٍ، فتعجب يوشع من حياته ووثبته في الماء وسلوكه، فارتحلا متجاوزين من البحر تلك الليلة والغد إلى الظهر فنسي يوشع ذكرَ ما رأى لموسى.