{ فَكُلِي } يا أمي من النخلة { وَٱشْرَبِي } من النهر { وَقَرِّي عَيْناً } أي: نوّري عينك بولدك وطيبي نفسك به { فَإِمَّا تَرَيِنَّ } أي: إن رأتي { مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً } يسألك عن حالك وولدك { فَقُولِيۤ } في جوابه؛ يعني: أشيري إليه: { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً } أي: صمتاً عن التكلم { فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً } [مريم: 26] أي: إنساناً.
والحكمة في إلهام ولادتها وشاع بين الأنام قصتُها، فمكثت مدة نفاسها في غارٍ هناك وبعدما انقضتْ: { فَأَتَتْ بِهِ } أي: بولدها { قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } أي: ولدَها على صدرها، فلما رأوه معها، أخذوا في لومها وتقريعها؛ حيث { قَالُواْ } معيرين منادين بها على سبيل التوبيخ واللوم: { يٰمَرْيَمُ } الصالحة العفيفة المشهورة بالعصمة في بيت المقدس { لَقَدْ جِئْتِ } بالآخر { شَيْئاً فَرِيّاً } [مريم: 27] منكراً بديعاً في غاية الشناعة والفضاحة.
{ يٰأُخْتَ هَارُونَ } هو رجلُ صالحُ نسبوها إليه تهكماً، وقيل: هي من أولاد هارون أخي موسى، نسبوها إليه وإن تطاولت المدة بينهما { مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ } منسوبٍ إلى الفواحش والزنا والخروج عن حدود الله { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } [مريم: 28] زانيةً فاجرةً بل هما من أصلح القوم وأزكاهما عن الفواحش والفسوق، فكيف أنت ومن أين اكتسبت هذا؟!.
وبعدما تمادى تعييرهم وتشنيعهم { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } أي: إلى ولدها، بأن قل لهم في جوابهم ما يفحمون به ويسكتون، بل يتيهون ويتحيرون، ولما رأوا إشاراتها إليه وتفويضها الجواب نحوه { قَالُواْ } على سبيل الاستهزاء: { كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } [مريم: 29] رضيعاً ولم يُعهد من مثله التكلم، أنت قد خجلتِ واستحييتِ تدفعينَنَا بهذا الرضيع، مع أنه معصومُ لا ذنب له.
ولما رأى عيسى اشتداد اللائمين على أمه بالتقرح والتشنيع، واضطرار أمه واضطرابها من لومهم، أخذ في الجواب بإلهام الله إياه؛ حيث { قَالَ } مفصحاً معرباً على وجه الفصاحة والبلاغة، ومشتملاً على الحكمة البالغة: لا تعيروا أيها الجاهلون عن أمري وعلو شأني في أمي الكاملة المتناهية في العصمة والعفة، ولا ترموها بما لا يليق بعلو شأنها وجلالة قدرها { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } الحكيم المتقن في أفعاله، المستقل في حكمه وآثاره، خصني بالنبوة الرسالة، بأنواع الكرامات والمعجزات، وأبدعني من محض جوده من روحه، وأرسلني إلى عباده للهداية والإرشاد إلى توحيده؛ لذلك { آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ } أي: الإنجيل النازل من عنده علي؛ لترويج رسالتي وإرشادي وتتميم تكميلي { وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } [مريم: 30] كسائر الأنبياء، { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً } نفّاعاً كثيرَ الخير والبركة لأهل الصلاح من البرية { أَيْنَ مَا كُنتُ } وحيثما توطنتُ وجلستُ معهم يَصِل خيري إليهم.
{ وَ } من كمال تربية الله وتزكيته إياي { أَوْصَانِي } وأمرني { بِٱلصَّلاَةِ } والميلِ التام والتوجه نحوه بالجوارح والأركان { وَٱلزَّكَاةِ } أي: التخلية والتطهير عن جميع الرذائل والخبائث المتعلقة بالنفوس البشرية، المنغمسة بالعلائق الدنيوية، المبعدة عن صفاء الوحدة الذاتية { مَا دُمْتُ حَيّاً } [مريم: 31] بروح الله الذي أبدعني منه خالصاً صافياً عن جميع الكدورات، وأوصاني بما أوصاني من عنايةٍ منه لأكون باقياً على صفائي، وطهارة لاهوتي بلا كدرٍ من خبائث الناسوت.
{ وَ } جعلني أيضاً { بَرّاً } أي: باراً محسناً { بِوَٰلِدَتِي } ممتثلاً بأمرها، قائماً بخدمتها، خافضاً جناح الذل من الرحمة إياها، والحمد لولي الحمد الذي ربَّاني سيعداً على الطهارة الصلاح وأنواع الكرامة والفلاح والتذلل والتواضع مع عموم عباده { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً } متكبراً متجبيراً على الناس { شَقِيّاً } [مريم: 32] بعيداً عن روح الله مستجلياً لعذابه.
{ وَ } متى سلمني الله، وطهرني عن جميع ما يعوقني عن مقتضى صرافة الوحدة الذاتية الإلهية المعبرة عنها بروح الله صار { ٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ } أي: سلام الله وحفظه { يَوْمَ وُلِدْتُّ } عن أمرٍ يحفظني من مسِّ الشيطان، { وَيَوْمَ أَمُوتُ } يحفظني عن شرِّه ووسوسته أيضاً { وَيَوْمَ أُبْعَثُ } للحشر أكون { حَيّاً } [مريم: 33] بحياة الله وروحه كما كنت قبل هذا.
ثم لما سمعوا من عيسى ما سمعوا، تاهوا وتحيروا في أمره، وصاروا حيارى متعجبين في علو شأه وشأن والدته وجلالة قدرهما، فاختلفوا وتحزبوا، وفرقةُ منهم قالت بألوهيته، وفرقةُ قالت بإبنيته لله، وفرقةُ قالت بالأقانيم، ومنهم من رماه وأمه بما لا يليق بشأنهما.
أخبر سبحانه حبيبه بما هو الواقع الحق الصريح فقال: { ذٰلِكَ } أي: القائل بهذه الكلمات والموصوف بهذه الصفات المذكورة هو { عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } لا ما قاله الغلاة من النصارى، ولا ما قاله طغاة اليهود بل { قَوْلَ ٱلْحَقِّ } هذا { ٱلَّذِي } ذُكر لك يا أكمل الرسل { فِيهِ يَمْتُرُونَ } [مريم: 34] ويترددون، مع أنه لا ريب فيه، لا ما قالته النصارى بأنه ابن الله.
إذ { مَا كَانَ للَّهِ } أي: ما صحَّ وجاز بعلو شأنه سبحانه { أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ } أي: هو منزهُ في ذاته عن الأهل والولد؛ لأنه لا يليق بذاته المعاونةُ والاستظهارُ بهما تعالى عن ذلك، بل من حكمه وشأنه أنه { إِذَا قَضَىٰ } وأراد { أَمْراً } من الأمور الكائنة في عالم الأمر { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ } حين تعلق إرادته بتكوينه: { كُن } بلا ترتيبٍ في السمع بتقديم الكاف على النون.
إذ كلامه القائم بنفسه سبحانه نفسيُ ذاتيُ لا يُتوهم فيه الحروفُ والأصوات ومقاطعها؛ ليتصور الترتيب بالتقدم والتأخر كما يُتوهم في الألفاظ الصادرة عنا، بل يخلق سبحانه بقدرته الكاملة في لساننا لفظاً معجزاً لا من جنس ألفاظنا ليسع لنا التعبير عن كلامه وقتَ إرادة نفودِ قضائه، وهو لفظه: "كن" وعن حصول المقضي بلفظ: { فَيَكُونُ } [مريم: 35] أيضاً بلا تراخٍ وتعقيبٍ يُفهم من الفاء، ومَن كان شأنُه هذامن أين يكون له حاجة إلى الأهل والولد وإحبالُ المرأة ووقاعها؟! تعالى عما يقولون علواً كبيراً.
بل هو سبحانه واحدُ أحدُ فردُ صمدُ لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً هذا؛ أي: من قوله: { ذٰلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } [مريم: 34] إلى هنا كلامُ وقع في البين.
ثم قال سبحانه حكايةً عن عيسى، ومن جملة ما أوحى إليه: { وَ } بعدما بالغ عيسى في بيان طهارته وعصمة أمه، وتكلم في غير أوان التكلم بكلام عجيبٍ غريبٍ، عَلِم بنور النبوة ونجابةٍ الفطرة أن بعضهم قد يقولون في شأنه وشأن أمه ويتخذونه إلهاً، أورد كلاماً نافياً لظنونهم وجهالاتهم دافعاً لغلوهم واتخاذهم.
فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ } الذي أوجدني وأبدعني بلا أبٍ هو { رَبِّي } الذي ربَّاني وأمي بأنواع الكرامة، وأظهرني من كتم العدم بمقتضى قدرته { وَ } هو سبحانه { رَبُّكُمْ } أيضاً أوجدكم وأظهركم مثلي إيجاداً إبداعياً { فَٱعْبُدُوهُ } ووحّدوه ولا تشركوا معه شيئاً من المخلوقات، وتوجهوا نحوه بالتذلل التام والانكسار؛ إذ هو المستحق للعبادة لا معبود سواه، ولا إله إلا هو { هَـٰذَا } الذي بينت لكم { صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [مريم: 36] وطريقُ واضحُ سويُ موصلُ إلى معرفة الحق وتوحيده، فاتبعوه إن كنتم مؤمنين موقنين بتوحيده.
وبعدما نبههم عيسى. صلوات الرحمن عليه. بالطريق الأبين الأوضح { فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ } أي: فِرق النصارى واليهود في شأنه وشأنه أمه اختلافاً ناشئاً { مِن بَيْنِهِمْ } بلا سيدٍ شرعيٍ وعقليٍ، فأفرط النصارى باتخاذه إلهاً وابناً له، وفرّط اليهود بنسبته وأمه إلى ما لا يليق بشأنهما.
وبالجملة: فاستحق كلا الفريقين بأشد العذاب وأسوأ العقاب { فَوَيْلٌ } عظيمُ وعذابُ شديدُ أليمُ { لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي: ستروا ما هو الحق في شأنه، وعدلوا عنه إلى الباطل بلا حجةٍ وبرهانٍ { مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [مريم: 37] أي: من شهود يوم القيامة وظهوره، وهم يُسحبون فيه على وجوههم نحو النار، ويُكبون عليها صاغرين مضطرين.
{ أَسْمِعْ } أيها السميمع { بِهِمْ } أي: بأنينهم وحنينهم { وَأَبْصِرْ } أيها المبصر بأغلالهم وسلاسلهم { يَوْمَ يَأْتُونَنَا } للعرض والحساب مضطرين مسحوبين { لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ } الخارجون عن مقتضى أوامرنا ونواهينا { ٱلْيَوْمَ } الذي في النشأة الأولى { فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [مريم: 38] وجهلٍ عظيم عن أهوال يوم القيامة وأفزاعه.