خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كۤهيعۤصۤ
١
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ
٢
إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً
٣
قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً
٤
وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً
٥
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً
٦
يٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً
٧
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً
٨
قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً
٩
قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً
١٠
فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً
١١
-مريم

تفسير الجيلاني

{ كۤهيعۤصۤ } [مريم: 1] يا كافي مهام جميع الأنام، وهاديهم إلى دار السلام بيد القدرة العلية الصادرة عنك نيابةً عنا.
هذه السورة: { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ } الذي ربَّاك كافياً هداياً للمضلين ينبوعاً للعلوم الصافية اللدنية الجارية من قبلك على لسانك بمقتضى الوحي الإلهي والإلهامات الغيبية { عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } [مريم:2] المتوجه نحوه في السراء والضراء، المسترجع إليه عند هجوم البلاء وحلول العناء.
اذكر وقت { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ } نداء مؤملٍ ضريع، وناجى معه مناجاة ما يؤنس فجيعٍ { نِدَآءً خَفِيّاً } [مريم: 3] متمنياً متحسراً، آمراً في ندائه ليأسه وقنوطه؛ لانقضاء وقت الولد وأوانه؛ لئلا يُلام عند الناس لطلب الولد وقت الهرم من كلا الجنابين.
حيث { قَالَ } مشتكياً إلى الله باثاً شكواه عنده سبحانه: { رَبِّ } يا من ربَّاني بأنواع اللطف والكرم { إِنَّي } من غاية ضعفي، ونهاية هزالي ونحولي { وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } أي: ضعفت دعائم جسمي وقوائم بدني، وأشرفت على الانهدام والانصرام { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } أي: اشتعل شبيب رأسي، وذهب سواده، وانقلب إلى البياض المشعر بالانقضاء والزوال، مثل ابيضاض النباتات وقت الخريف { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ } أي: لم أكن في كل حالٍ بدعائي إياك { رَبِّ شَقِيّاً } [مريم: 4] خائباً خاسراً مردوداً، بل عودتني بفضلك وجودك بالإجابة والإنجاح، وهذا الدعاء وإن كان أبعدَ بحسب العادة من الإجابة إلاَّ أنه بالنسبة إلى قدرتك وجودك أقرب، ويجنب حولك وقوتك أسهلُ وأيسرُ، سيما ألهمتني به ووفقتني على إظهاره.
{ وَإِنِّي } يا ربّ { خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ } أي: ن أبناء أعمامي الذين يترصدون الولاية والحبورة { مِن وَرَآءِى } وبعد انقراضي وانقضائي أن يغيروها ويضيعوها، ويحرفوا مَعَالم الدين وشعائر الإسلام بين المسلمين؛ إذ لا يرجى منهم الرشد والصلاح، والخير والفلاح، وأنت أعلم بحالهم مني يا رب، وليس لي ولد صالح يخلفني بعدي، ولم يبقَ لي قوة الاستيلاد لهرمي وضعفي { وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً } عقيماً أصلياً لم تلد قط، فلا مرجع لي في أمري سوى بدائع صنعتك، وغرائب قدرتك { فَهَبْ لِي } بمقتضى فضلك وجودك { مِن لَّدُنْكَ } لا على طريق العادة ومقتضى الأسباب الصوري ولداً { وَلِيّاً } [مريم: 5] يولي أمر دين بني أمتي.
بحيث: { يَرِثُنِي } عني نبوتي وحبورتي وولايتي، وجيمع ما أنزلت عليّ خاصةً من مقتضيات إحسانك إليّ وإنعامك عليَّ { وَيَرِثُ } أيضاً { مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ما بقي منهم من شعائر الدين ومعالم الهدى واليقين، قيل: كان زكريا أخا يعقوب بن إسحاق، { وَ } بالجملة: { ٱجْعَلْهُ رَبِّ } بمقتضى كرمك وجودك { رَضِيّاً } [مريم: 6] راضياً عنك بجميع ما جرى عليه من قضائك، صابراً على نزول عموم بلائك، شاكراً على نعمائك مرضياً عندك وعند عموم عبادك.
ثم لما اشتكى عنده سبحانه بما اشتكى، ودعا ما دعا أجاب سبحانه دعاءه، وأسرع إجابته منادياً له على سبيل الترحم والتفضل: { يٰزَكَرِيَّآ } المتضرع المناجي إلينا، المستدعي منا خلفاً يخلفك ويحيي اسمك { إِنَّا } من مقام عظيم جودنا { نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ } يولد منك ومن زوجتك العقيمة العاقرة { ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ } ليحيي مراسم دينك وشرعك وحبورتك مع أنه { لَمْ نَجْعَل } ولم نخلق { لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } [مريم: 7] بهذا الاسم. بهل هو أول من سمّي به.
سمع زكريا البشارة من قبل الحق، { قَالَ } على سبيل الفرح وبسط الكلام معه سبحانه، وإن كان جميع أحواله حاصلاً عنده سبحانه على التفصيل حاصلاً حاضراً لديه مستبعداً مستغرباً: { رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } في سني هذا وضعفي ونحولي { وَ } قد { كَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً } جِبلِّياً { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ } والكهولة والهرم { عِتِيّاً } [مريم: 8] يبساً؛ بحيث لا يبقى على رطوبةٍ في مفاصلي وأركان بدني وقوائم جسمي؟!.
{ قَالَ } سبحانه: يا زكريا لا تستبعد من قدرتنا أمثال هذا بل { كَذٰلِكَ } أي: مثل ذلك قدّرنا لك أبناً بأن تكون باقياً على كبرك وهرمك، وزوجتك أيضاً على هرمها وعقرها، نخرج ونوجد منكما الولد إظهاراً لقدرتنا الكاملة وأمثال هذا وإن كان عسر عادةً، علينا يسيرُ وفي جانب قدرتنا سهلُ يا زكريا.
كذلك { قَالَ رَبُّكَ } اسمع قوله: { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي: إخراج الولد منك ومن زوجتك عليّ سهلُ يسيرُ وفي جنب حولي وقوتي حقيرُ { وَ } كيف لا يكون سهلاً إني { قَدْ خَلَقْتُكَ } وقدَّرت وجودك فيما مضى من العدم { مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [مريم: 9] ولا مسبوقاً بشيءٍ، بل أوجدتك إيجاداً إبداعياً، وأظهرتك من كتم العدم إظهاراً إختراعياً بلا سبق مادةٍ ومدةٍ وسببٍ وعادةٍ، وهذا هينُ بالنسبة إلى ذاك.
ثم لما تفطن زكريا بإنجاح مطلوبه، أخذ يطلب العلامة والأمارة لحمل امرأته؛ حيث: { قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِيۤ } بفضلك { آيَةً } علامةً دالةً على حمل امرأتي { قَالَ } سبحانه { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ } أي: لا تقدر على المقاولة والمكالمة { ثَلاَثَ لَيَالٍ } مع نهارها لا عن عروضٍ عارضةٍ ولحوق مرضٍ وخرسٍ بل كنت { سَوِيّاً } [مريم: 10] صحيحاً سالماً عن جميع الأسقام، غير أن اشتغالك بالحق شعلك عن الخلق؛ بحيث لا تطيق التكلم معهم في المدة المذكورة إلا رمزاً وإشارة إيماء.
ثم لما دنا وقت الحمل ولاحت أماراته { فَخَرَجَ } صبيحة { عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ } أي: الحجرة التي هو فيها في خلوته للصلاة على عادته المستمرة، وكان من عادته أن يأمرهم في كل صبيحة خرج عليهم بالصلاة والدعاء والخشوع والتوجه { فَأَوْحَىٰ } أي: أومأ وأشار { إِلَيْهِمْ } بلا قدرةٍ على النطق والتكلم { أَن سَبِّحُواْ } ربكم ونزهوه عما لا يليق بجنابه { بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [مريم: 11] أي: في الصبيحة التي أنتم فيها والبكرة التي ستجيء إلى العشية الآتية وإلى الصبحة بعده، أوصاهم كل يوم بذلك على الدوام، وفي تلك المدة ما قدر على التكلم لذلك أشار وأومأ.