خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
١٤٢
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١٤٣
-البقرة

تفسير الجيلاني

ثم لما كان الغالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل حاله وسلوكه، توحيد الصفات والأفعال المورثين له عن آبائه - صلوات الله عليهم - كان تابعاً لهم في قبلتهم التي كانوا عليها أيضاً صورة، وحين ظهر وانكشف له صلى الله عليه وسلم توحيد الذات، وغلبت عليه تجلياتها وإشراقها استغرق ووله، بل فني واضمحل وتلاشت فيها هويته، وبعدما تنزل عن ولهه واستغراقه، خص له سبحانه قبلة مخصوصة، ووجهة معينة صورة؛ لتكون آية على قبلته الحقيقية المعنوية.
ثم لما أمره سبحانه بتوجهها واستقبالها وهو في الصلاة إلى القبلة التيكان عليها قبل الأمر وتحول نحوها فيها، أخذ المنافقون في الغيبة، واشتغلوا بالنفاق، ونسبوه إلى ما هو منزه عنه، وانتهزوا واغتنموا الفرصة لمقابلته وصمموا العزم بمجادلته، أراد سبحانه أن ينبه بما هم عليه من النفاق والشقاق في أمر القبلة على وجه الإخبار، فقال: { سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ } المعزولون عن مقتضى العقل الخيري، المتشعب من العقل الكلي، المتفرع على اسم العليم: { مِنَ ٱلنَّاسِ } المحجوبين بظلمة التعينات عن نور الوجود قولاً ناشئاً عن محض الغفلة والسفاهة على سبيل الاستهزاء، وهو قولهم: { مَا وَلَّٰهُمْ } حوَّلهم وصرفهم؛ أي: المؤمنين { عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } ومن قبل مع أنها قبلة من يدعون الانتساب إليهم والاقتداء بملتهم؟
{ قُل } لهم يا أكمل الرسل على وجه التنبيه والإرشاد وبلسان التوحيد الذاتي بعدما انكشف لك: { للَّهِ } المنزله عن الأماكن والجهات المتجلي فيها { ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ } أي: جميع ما يتوهم من الزمان والمكان والجهة، إنما هي مظاهر ذاته ومجالي أسمائه وصفاته { يَهْدِي } بحبه الذاتي { مَن يَشَآءُ } من عباده المتوجهين إلى جنابه { إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة: 142] موصلٍ إلى ذاته من أي مكان كان، وفي أي وجهة وزمانٍ؛ إذ هو محيط بكلها.
{ وَكَذَلِكَ } أي: مثل صراط المستقيم الموصل إلى ذاتنا المعتدل المتوسط بين الطرق { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } معتدلاً قابلاً للخلافة والنيابة، بل في تولية الأمور بين العباد { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ } قوامين بالقسط { عَلَى ٱلنَّاسِ } الغافلين عن التوجه إلينا { وَ } كذلك أرسلنا إليكم رسولاً منكم حتى { يَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } حفيظاً لكم عن طرق الإفراط والتفريط فيما صدر عنكم من الأمور، فعليكم أن تلازموا وتداوموا امتثال ما جاء به رسولكم من عند ربكم؛ لتكونوا مهتدين إليه سبحانه من الصراط المستقيم.
{ وَمَا جَعَلْنَا } أي: قبلتك يا أكمل الرسل { ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } قبل هجرتك منها { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } ولنميز ونفصل { مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ } الهادي إلى توحيد الذات { مِمَّن يَنقَلِبُ } يعود ويرجع { عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } قبل الوصول إلى توحيد الذات { وَإِن كَانَتْ } الوصلة إلى الوحدة الذاتية { لَكَبِيرَةً } ثقيلة شاقة { إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ } إلى ذاته بتوفيقهم على الإيمان ممن يرشدهم إليه { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ } المظهر لكم { لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } به بعد توفيقكم إياه { إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ } المؤمنين بالرسول المرشد إلى توحيد الذات الموقنين بما جاء به من عند ربه { لَرَءُوفٌ } عطوف { رَّحِيمٌ } [البقرة: 143] مشفق يوصلهم إلى ما يظهرم لأجله بفضله وطوله.