خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً
١١٥
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ
١١٦
فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ
١١٧
إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ
١١٨
وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ
١١٩
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَانُ قَالَ يٰآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ
١٢٠
فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ
١٢١
ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ
١٢٢
قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ
١٢٣
وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ
١٢٤
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً
١٢٥
-طه

تفسير الجيلاني

ثم بعد ذلك اقرأ عليهم، وبههم بما فيه من قدر عقولهم { وَ } لا تنسى نيهنا عن الاستعجال بأداء القرآن قبل تمام الوحي مثل نيسان أبيك آدم عليه السلام عهده معنا، فإنا { لَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ } أبيك { ءَادَمَ مِن قَبْلُ } بقولنا نهياً له ولامرأته: { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ } [البقرة: 35] { فَنَسِيَ } عهدنا هذا لتغرير الشيطان له { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [طه: 115] رأياً صائباً في حفظ العهد حتى يوطن نفسه على مقتضى النهي.
{ وَ } اذكر لنقض عهده وقصور رأيه وقت { إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ } أي: تذللوا له تكريماً وتعظيماً؛ لأنه أفضل منكم وأجمع لتجليات أوصافنا { فَسَجَدُوۤاْ } ووقعوا متذللين له على الأرض تكريماً له، وامتثالاً لأمر ربهم { إِلاَّ إِبْلِيسَ } من بينهم { أَبَىٰ } [طه: 116] وامتنع عن سجوده لاستكباره وعتوه.
وإذ استكبر إبليس عن تعظيمه نبهنا عليه عداوته { فَقُلْنَا } له: { يآءَادَمُ } المكرم بسجود الملائكة { إِنَّ هَـٰذَا } المشار إليه بالإشارة القريبة الممتنع عن سجودك وتعظيمك { عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ } يريد إفسادكما فاحذروا عن مصاحبته وتغريره، ولا تتكلما معه { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ } إلى دار الابتلاء { فَتَشْقَىٰ } [طه: 117] أنت يا آدم على الخصوص، أي: تتعب وتعيى بسبب كسب المعيشة؛ لأن معيشتك حينئذٍ من كد يمينك.
ولا تعب لك في الجنة، بل { إِنَّ لَكَ } أي: حق وثبت لك أيضاً { أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ } [طه: 118] أي: في الجنة لسعة طعام الجنة وثيابها.
{ وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا } لأن العطش إنما هو من فرط الحرارة ولا حرارة فيها { وَ } كيف يكون فيها حرارة؛ إذ أهلها له { لاَ تَضْحَىٰ } [طه: 119] ولا يبرز منه الظل إلى الشمس من جهة البرودة؛ لأن أهلها لا يؤذون بالحرارة والبرودة.
فلما عاش فيها زماناً مستريحاً بلا تعب ولا عناء أظهر إبليس عداوته، وأخذ يوسوس له ولزوجته ليخرجهما منها؛ لأ،هما ما داما في الجنة، لم يقدر على إضلالهما { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَانُ } أي: ألقى وسوسته في نفسه و{ قَالَ يٰآدَمُ } على وجه النصيحة: هنيئاً لك عيشك في الجنة بلا تعب ومحنة { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ } إن أكلت منها يخلدك أبداً فيها { وَ } أهديك على { مُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ } [طه: 120] أي: لا يخلق ولا يعتق، بل يتجدد دائماً بتجدد الأمثال، بلا انتقالٍ وزوالٍ.
وإذ وسوس إليهما سمعا قوله وقيلا وسوسته فنسيا عهد ربهما { فَأَكَلاَ مِنْهَا } حتى شيعا وأراد أن يتبرزا ويتغوطا، ثم لما اتكبا المنهي، وظهر منهما ما هو منافٍ لطهارة الجنة ونظافتها، أمر سبحانه بإخراجهما منها، فنزع أولاً عنهما لباسهما؛ أي: لباس الطهارة والنجاة الفطرية والتقوى الجبلية { فَبَدَتْ } ظهرت بعد نزع اللباس { لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } عوراتهما، فاضطروا على التستر والتغطي { وَطَفِقَا } أي: شرعا { يَخْصِفَانِ } ويلزقان { عَلَيْهِمَا } أي: على عورتهما { مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ } أي: من أوراق بعض أشجارها، قيل: هي ورق التين.
{ وَ } إذا كان حالهما كذلك قالت الملائكة: { عَصَىٰ ءَادَمُ } المكرَم المسجود له { رَبَّهُ } الذي رباه بتناول ما يصلحه منها عن تناول ما يضره، بأن أعرض عن النهي، وبادر إلى ارتكاب المنهي بغرور الشيطان المغوي المضل { فَغَوَىٰ } [طه: 121] بإغوائه، وضل عن مراده الأصلي بتغرير العدو؛ لأن العدو إنما يلقى عدوه عكس مطلوبه.
{ ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ } بعدما ألهمه الإنابة والرجوع إليه، فاعترف بذنبه، ورجع إلى ربه تائباً بقوله:
{ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [الأعراف: 23] { فَتَابَ عَلَيْهِ } أي: قَبِل سبحانه توبته { وَهَدَىٰ } [طه: 122] أي: هداه إلى مقصده الأصلي، وقبلته الحقيقية، إلا أنه سبحانه لا يُبْطل حِكمةَ حُكمة السابق المترتب على النهي، وهو قوله تعالى: { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ } [البقرة: 35] الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية.
لذلك { قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا } أي: انزلا من الجنة التي هي دار الأمن والسرور إلى الدنيا التي هي دار التفرقة والغرور { جَمِيعاً } أصلاً وفرعاً، صديقاً وعدواً، وبعد هبوطكم إليها { بَعْضُكُمْ } يا بني آدم { لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } في أمور معاشكم، والشيطان عدو لكم في أمور معادكم، فتبقى هذه العداوة بينكم ما دمتم فيها، ومع أمرنا لكم بالهبوط والخروج منها إليها، لا نترككم هناك ضالّين محرومين مطرودين { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } بواسطة الرسل والكتب المنزلة عليهم فاتبعوا هداي { فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ } عزيمة وقصداً صحيحاً { فَلاَ يَضِلُّ } في النشأة ا لأولى لاتصافه بصفاتنا { وَلاَ يَشْقَىٰ } [طه: 123] في النشأة الأخرى لفنائه فينا وبقائه ببقائنا.
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي } أي: كتابي الجاري على ألسنة رسلي الهادين عن الضلال { فَإِنَّ لَهُ } أي: ثَبَتَ له وحقَّ ما دام دار الدنيا { مَعِيشَةً ضَنكاً } ضيقاً يضيق قلبه؛ بحيث لا يسع فيه غير التفكر في أمر المعاش { وَ } إذا انتقل منها { نَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ } الكبرى { أَعْمَىٰ } [طه: 124] أي: يصور إعراضَه عن الحق في الدنيا على صورة العمى في الآخرة.
حيث { قَالَ } تحسراً وتحزناً: { رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ } في الآخرة { وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } [طه: 125] في الدنيا.