خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى
٥٢
ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ
٥٣
كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ
٥٤
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ
٥٥
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ
٥٦
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يٰمُوسَىٰ
٥٧
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى
٥٨
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى
٥٩
فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ
٦٠
قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ
٦١
فَتَنَازَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَىٰ
٦٢
قَالُوۤاْ إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ
٦٣
فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ٱئْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ ٱلْيَوْمَ مَنِ ٱسْتَعْلَىٰ
٦٤
-طه

تفسير الجيلاني

{ قَالَ } موسى: لا أعرف حالهم من الهداية والضلالة؛ إذ { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } لا يوحي إليَّ من أحوالهم شيئاً بل أحوالهُم ثابتةُ عنده سبحانه { فِي كِتَابٍ } هو حضرة علمه الأزلي على التفضيل؛ بحيث { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي } أي: لا يغيب عن أحوالهم شيءُ من عمله سبحانه { وَلاَ يَنسَى } [طه: 52] ربي شيئاً من ملعوماته؛ إذ علمه حضوريُ بالنسبة إلى جميع الأشياء، والعلمُ الحضوريُّ لا يجري فيه الغيب والنسيانز
ثم قال موسى دفعاً للاثنينية الناشئة من الإضافة: ربنا هو ربكم { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً } مكاناً تستقرون فيه وتستريحون { وَسَلَكَ } أي: قدَّر { لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } مختلفةً بعضها جبلاً ترتحلون إليه في الصيف، وبعضها سهلاً ترجعون إليه في الشتاء، حتى يكمل استراحتكم فيها، { وَ } مع ذلك { أَنزَلَ } لكم لتكميل استراحتكم أيضاً { مِنَ ٱلسَّمَآءِ } أي: عالم الأسباب { مَآءً } لإحياء الأرض الميتة { فَأَخْرَجْنَا } أي: أنشأَنا وأنبتنا { بِهِ } أي: بسبب الماء فيها { أَزْوَاجاً } وأصنافاً { مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ } [طه: 53] مختلفةٍ؛ ليكون مفرّجاً لغمومكم مقوياً لنفوسكم.
وإذا احتجتم إلى الغذاء { كُلُواْ } منها؛ حيث شئتم رغداً { وَٱرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } التي تستريحون بسببها من أكلها وحملها وركوبها { إِنَّ فِي ذٰلِكَ } الجَعَل والإنزال والإخراج { لآيَاتٍ } دلائلَ واضحاتٍ على قدرتنا واختبارنا { لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ } [طه: 54] الناهين عقولهم عن إسناد الأمور إلى الأسباب بل يسندونها إلى مُسَبِّبها أولاً وبالذات.
وإذا تأملتم في بدائع مصنوعاتنا وغرائب مخترعاتنا على وجه الأرض جزمتم أنا { مِنْهَا } أي: من الأرض { خَلَقْنَاكُمْ } وأوجدناكم بقدرتنا واختيارنا إيجاد النبات منها وقت الربيع { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } أيضاً بالآجال المقدرة لانقضاء حياتكم، إفناء النبات في أيام الخريف { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ } للحشر والعرض في يوم الجزاء { تَارَةً أُخْرَىٰ } [طه: 55].
{ وَ } مع أمرنا لموسى وأخيه المسلَين إليه بتليين القول، والتنبيه بدلائل الآفاق والأنفس { لَقَدْ أَرَيْنَاهُ } تحقيقاً وتأكيداً؛ لئلا يبقى عنا جداله، حين أخذنا بظلمه في وقت الجزاء، مع علمنا بأنه من الهالكين في بيداء البُعد والعناد { آيَاتِنَا } الدالة على صدق موسى المرسَل { كُلَّهَا } متعاقبة مترادفة، وهي: العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم والسنين والطمس { فَكَذَّبَ } بجميعها { وَأَبَىٰ } [طه: 56] فامتنع عن تصديق شيءٍ منها، بل نسب الكل إلى السحر والشعبذة.
{ قَالَ } اغتراراً بعلو شأنه ورفعة مكانه، مستفهماً على وجه التهكم والإنكار: { أَجِئْتَنَا } متمنياً لرئاستنا مع غاية حقارتك وضعفك { لِتُخْرِجَنَا } مع كمال عظمتنا وقوتنا { مِنْ أَرْضِنَا } التي استقررنا عليها زماناً طويلاً { بِسِحْرِكَ } الذي تعلمت من شياطين الأمة في بلاد الغربة { يٰمُوسَىٰ } [طه: 57] المتمني محالاً، ولولا خشيتي من اشتهار عجزي من دلائلكوأباطيلك لقتلك ألبتة فالزم مكانك.
{ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ } من أنواع السحر كامل من سحرك لا من نوعٍ آخر بل من { مِّثْلِهِ } أي: مثل سحرك كاملُ منه، قُمْ من عندي وتأمل في أمرك؛ إن شئت تُبْ من هذياناتك وفضولك وارجع إليّ بالاستغفار حتى أغفر زلتك، وإن شئتَ { فَٱجْعَلْ } أي: عيِّن وقتاً من الأوقات؛ ليكون { بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } ثم عين { مَكَاناً سُوًى } [طه: 58] أي: مسوى لا حائلَ فيه بحيث يرى كل أحد ما يجري بيننا حتى تفتضح على رءوس الأشهاد.
{ قَالَ } موسى: إن معي ربي سيقويني لا أخاف من معارضتك بالسحر وتعيين موعد إتيانك، بل { مَوْعِدُكُمْ } للمعارضة مع المعجزة { يَوْمُ ٱلزِّينَةِ } أي: يوم العيد؛ إذ يجتمع فيه الأقاصي والأداني { وَ } لا يكون وقت تفرقهم إلى بيوتهم { أَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى } [طه: 59] أي: في وقت الضحوة المعدة لإظهار الزينة، ليظهر كل منهم على صاحبه زينةً؛ ليكون إعجازي لك أبعد من أن يرتاب فيه أحد.
{ فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ } وانصرف عن مكالمة موسى استكباراً { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } أي: أمر بجميع سَحَرةِ مملكته ليُرِىَ القاصرين أن ما جاء به موسى من جنس السحر { ثُمَّ أَتَىٰ } [طه: 60] الموعد المعين مع ملئه وسَحَرَتِه.
وبعدما حضروا الموعد { قَالَ لَهُمْ } أي: للسحرة { مُّوسَىٰ } على مقضتى شفقة النبوة أو بإلقاء الله إياه بطريق الإلهام كلاماً خالياً عن الميل إلى الخصومة إمحاضاً للنصح: { وَيْلَكُمْ } أي: ويلُ لكم ايها العقلاء التاركومن طريقَ العقل بمتابعة هذا الطاغي { لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } بأن أفعاله مما يعارَض بالسحر والشعوذة؛ لأن ما جئتُ به من الآيات مما آتاني الله من فضله، وإن افتريتم على الله { فَيُسْحِتَكُم } أي: يهلككم ويستأصلكم { بِعَذَابٍ } نازلٍ من قهره { وَقَدْ } تحقق عندكم أيها العقلاء أنه { خَابَ } خيبةً أبديةً { مَنِ ٱفْتَرَىٰ } [طه: 61] على الله بما لا يليق بذاته من إبطال قدرته أو دعوى المعارضة معه.
فإذا سمع السحرة من موسى قوله هذا، وتأملوا فيه تأملاً صادقاً، وجدوه صادراً عن محض الحكمة والفطانة، فلذلك تأثروا من قوله تأثراً عظيماً { فَتَنَازَعُوۤاْ } وتشاوروا { أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } بأن أمثال هذا الكلام لا يصدر إلا من المؤيَّدِ من عند الله، المستظهِر به سبحانه، ما يشبه كلام السحرة المعارضين، فمآل كل منهم في نفسه إلى تصديقه { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَىٰ } [طه: 62] أي: مناجاتهم في أنفسهم من فرعون وملئه، فتمكن فرعون وملئه في معرض المعارضة وقابلوا السحرة لممانعتهما.
{ قَالُوۤاْ } أي: فرعون وأشرافهم للسحرة تقويةً لهم في أمرهم: { إِنْ هَـٰذَانِ } الرجلان الحقيران { لَسَاحِرَانِ } يدَّعيان الرسالة من ربهما الموهوم ترويجاً لسحرهما، وبعد الترويج { يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } المألوفة { بِسِحْرِهِمَا } أي: بمجرد سحرهما لا من أمرٍ سماويٍ كما زعمان، وبعد إخراجكم من أرضكم يريدان الاستقرار والاستيلاء على عموم ملك العمالقة { وَيَذْهَبَا } بعد التقرر والتمكن { بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ } [طه: 63] أي: عادتكم العظمى ومرتبتكم العليا.
وبالجملة: يريدان أن يجعلا أمرنا وأمر بني إسرائيل بالعكس؛ ليكون لهم الكبرياء ولنا المذلة والهوان، بعكس ما كان من سالف الزمان.
وإذا سمعتم نُبَذاً من مقاصدهما { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } أي: هيئوا جميع أسباب سحركم؛ بحيث لا تحتاجون لدى الحاجة إلى شيءٍ من أدواته { ثُمَّ ٱئْتُواْ } عليها { صَفّاً } أي: صافِّين مجتمعين بمقابلتهما؛ لأنه أدخلُ في المهابة { وَ } اعلموا أنه { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْيَوْمَ } أي: فازَ ووصلَ بانواع العطاء والمواهب { مَنِ ٱسْتَعْلَىٰ } [طه: 64] وغلبَ عليهما.