خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ
٢٩
أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ
٣٠
وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
٣١
وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ
٣٢
وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
٣٣
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ
٣٤
كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
٣٥
-الأنبياء

تفسير الجيلاني

{ وَ } متى كان حال الشفعاء وخشيتهم على هذا المنوال { مَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ } مستحقُ للعبادة، مستقلُ في الألوهية { مِّن دُونِهِ } سبحانه { فَذٰلِكَ } أي: بمجرد قولهم هذا، وإن كان غير مطابق لاعتقادهم { نَجْزِيهِ } ونصليه { جَهَنَّمَ } البعد والحرمان ونيران الخيبة والخسران { كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 29] الخارجين عن مقتضى توحيدنا، المسيئين الأدب معنا.
{ أَ } ينكرون وحدتنا، ويثبتون لنا شريكاً من مصنوعاتنا، وينسبون بنا ولداً ظلماً وزوراً { وَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } بنا بأمثال هذه الخرافات الباطنة، ولم يعلموا كمال قدرتنا { أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ } أي: عالم الأسماء والصفات { وَٱلأَرْضَ } أي: عالم الطبيعة والعكوس والأظلال قد { كَانَتَا رَتْقاً } أي: كان كلُ منهما مرتَّقاً متضمناً بلا تعددٍ وتكثرٍ.
أما الأسماء والصفات فمندمجةُ مندرجةُ في الذات بلا هبوطٍ وتنزلٍ وظهور أثرٍ.
وأمَّا الطبيعة العدمية قد كانت ساكنةً في زاوية العدم بلا امتداد ظل الوجود عليها، { فَفَتَقْنَاهُمَا } بالتجليات الحبية المنتشئة من الأسماء الذاتية والصفات الكمالية الفعلية، المقتضية للظهور والانجلاء لحكم، ومصالح قد استأثرنا بها، وبالقبول والتأثر من أشعة التجليات { وَ } إن أردتم أن تنكشف لكم كيفية انتشاء الأشياء الكثيرة من الذات الواحدة المتصفة بالصفات والأسماء المتماثلة والمتقابلة، فانظروا كيف { جَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ } الواحد بالذات، والمشتمل على الأوصاف الكثيرة بحسب الآثار الصادرة منه { كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } أي: خلقنا، وصيَّرنا كل شيء له إحساسُ وتغذيةُ وتنميةُ وازديادُ وانتقاص من الماء؛ إذ هو أقوى أسباب التبدلات والتشكلات، وأقبل إلى قبول التصرفات والامتزاجات { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } [الأنبياء: 30] ويصدقون بهذا، مع أنه من أجلى البديهات، وأظهر المحسوسات.
ثم أخذ سبحانه في تعداد نعمه على خلَّص عباده امتناناً عليهم وتنبيهاً لهم كي يتفطنوا منها بوحدة ذاته، وكمال قدرته وبسطته فقال: { وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } التي هي الكرة الحقيقية، المائلة بالطبع إلى التدور والانقلاب { رَوَاسِيَ } شامخاتٍ مخافة { أَن تَمِيدَ } تتحرك وتضطرب وتضر { بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا } أي: في تلك الرواسي { فِجَاجاً } شقوقاً وأدويةً لتكون { سُبُلاً } ومسالكَ متسعةً وطرقاً واسعةً عنايةً منَّا إياهم { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [الأنبياء: 31] من تلك الطرق إلى ما يرومون من الأمكان البعيدة والبلدان النائية، فيتجرون ويتبعون منها مطالبهم ومصالحهم.
{ وَ } أيضاً قد { جَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ } المرفوع فوقهم { سَقْفاً مَّحْفُوظاً } لهم فيها أوقات مزارعهم ومتاجرهم، وسائر مصالحهم في البر والبحر، إذ هي من أقوى أسباب معاشهم { وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا } الدالة على وحدة مبدعها وكمال قدرة مخترعها وموجودها { مُعْرِضُونَ } [الأنبياء: 32] منصرفون منكرون، لا يتفكرون فيها كي تصلوا إلى زلال توحيدنا، وإلى كمال قدرتنا وأرادتنا.
{ وَ } كيف لا يتفكرون في خلق السماوات، ولا يتدبرون في الآيات الدالة على وحدة صانعها وبالجملة كيف ينكرون أولئك المنكرون المسرفون وجود موجدها مع أنه سبحانه { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ } وقدر لهم { ٱلْلَّيْلَ } سبباً ووقتاً لاستراحتهم ورقودهم { وَٱلنَّهَارَ } لمعاشهم واكتسابهم { وَ } جعل { ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } سببين لإنضاج ما يتقوتون ويتفكهون و{ كُلٌّ } من الشمس والقمر وسائر السيارات { فِي فَلَكٍ } من الأفلاك السبعة { يَسْبَحُونَ } [الأنبياء: 33] يسيرون ويدورون بسرعة تامة دائماً بلا قرار وسكونٍ؛ لتدبير مصالحهم، وإصلاح معايشهم، وهم لا يعلمون، ولا يشكرون.
ثم قال سبحانه: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ } يعني: إن النصارى ادعوا خلود عيسى وبقاءه بلا طريان موت عليه دائماً كما كان الآن، وكذا خلود جميع من لحق بالملائكة من البشر، ردَّ الله عليهم على أبلغ وجه وآكده حيث قال: ما جعلنا وقدرنا لبشر من بني نوعك يا أكمل الرسل الخلد والبقاء السرمدي، لا من الذين مضوا قبلَك، ولا من الذين يأتون بعدك، إذ هم بشر محدث مركب، وكل مركب محدث لا بدَّ أن ينهدم امتزاجه وتنحل أجزاؤه ومزاجه، ولو كان فرد من أفراد المحدث البشر قديماً لكنت أنت يا أكمل الرسل ألبتة { أَ } تزعم وتردد يا أكمل الرسل { فَإِنْ مِّتَّ } وعدمت عن الدنيا { فَهُمُ } الذين ادعى الجاهلون خلودهم { ٱلْخَالِدُونَ } [الأنبياء: 34] المقصرون على الخلود بلا لحوق عدمٍ عليهم، كلا وحاشا لا يكون الأمر كذلك.
بل { كُلُّ نَفْسٍ } ذات أجواء وتركيب خيرة كانت أو شريرة، طويلة مدة عمرها، أو قصيرة، باقية في أهل الأرض، أو ملحقةً بالملأ الأعلى { ذَآئِقَةُ } كأس { ٱلْمَوْتِ } المدركعة مرارتها، والمحتملة أهوال السكرات وأفزاعها، لا ينجو من الموت أحد، وإن علت رتبته وارتفعت مكانته، بل كلكم هلكى في حين ظهوركم ووجودكم المعاد المستعاد { وَ } إنما { نَبْلُوكُم } ونختبركم في وجودكم هذا، ونشأتكم هذه { بِٱلشَّرِّ } الغير المرتضى عندنا { وَٱلْخَيْرِ } المرضي، ليكون ابتلاؤنا إياكم { فِتْنَةً } لكم واختباراً منَّا إياكم لحكمة ومصلحة لنا فيها { وَ } بعدما اختبرناكم وابتليناكم في النشأة الأولى { إِلَيْنَا } لا إلى غيرنا؛ إذ لا غير في الوجود { تُرْجَعُونَ } [الأنبياء: 35] في النشأة الأخرى ورجوع الظل إلى ذي الظل، والعكوس إلى الصور، فنجازيكم بها، ونعامل بكم على مقتضى اختبارنا وابتلائنا إياكم في النشأة الأولى.