خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ
٨
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
٩
ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٍ لِّلعَبِيدِ
١٠
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ
١١
يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ
١٢
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ
١٣
-الحج

تفسير الجيلاني

{ ومِنَ ٱلنَّاسِ } المجبولين على الكفر والنسيان { مَن يُجَادِلُ } ويكابر { فِي } أوامر { ٱللَّهِ } وينكر مقدراته الماضية والآتية مع أنه { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي: دليل عقلي مسبوق بترتيب المعلومات اليقينية أو الظنية { وَلاَ هُدًى } أي: حدس، وكشف ملهم من عند الله ملقى في روعة { وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } [الحج: 8] دليل نقلي منسوب إلى الوحي، والإلهام بنور قلب من صدّق به، وأخذ بما فيه إيماناً واحتساباً، ومع أنه ليس له سند عقلي ولا نقلي ولا كشفي وشهودي، مُعِرِضٌ عن الدلائل والشواهد مع وضوحها وظهورها صارفاً عنان عزمه عن التأمل فيها.
{ ثَانِيَ عِطْفِهِ } يعني: لاوياً عنقه ومولياً جنبه عنها كبيراً وخيلاء على أصحاب الدلائل والبراهين وأرباب الكشف والشهود عتواً وعناداً، إنما فعل ما فعل من عدم الالتفات والتوجه نحو أهل الحق { لِيُضِلَّ } بفعله هذا ضعفاء الأنام { عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } الذي بيّنه الأنبياء وأوضحه الرسل بوحيه وإلهامه إليهم، وإنزال الكتب، والصحف عليهم { لَهُ } أي: لهذا المستكبر العاتي بسبب ضلاله وإضلاله { فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ } هوان وهون وطرد ولعن ونهب وأسر { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } بعد انقراض النشأة الأولى { عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } [الحج: 9] المحرق الذي هو عذاب النار الذي لا عذاب أشد منها.
وحين تعذيب الموكلين عليه إياه بالنار، أمرناهم أن يقولوا له على سبيل المثال التقريع والتوبيخ زجراً عليه: { ذٰلِكَ } الذي لحقك وينزل عليك من العذاب المخلد { بِمَا قَدَّمَتْ } وكسبت { يَدَاكَ } في النشاة الأولى، وعلى مقدار ما اقترفته من المعاصي والآثام بلا زيادة عليها عدلاً منَّا { وَ } اعلم أيها المسرف المبالغ في اقتراف الجرائم المستوجبة للعذاب { أَنَّ ٱللَّهَ } المتصف بالعدل القويم { لَيْسَ بِظَلَّٰمٍ لِّلعَبِيدِ } [الحج: 10] يعني: ليس بمبالغٍ في جزاء الانتقام عنه مقدار الجرائم والآثام مثل مبالغته في جزاء الإنعام والإحسان تفضلاً وامتناناً.
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ } المجبولين على نسيان المنعم، وكفران نعمه { مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ } المنزه المستغنٍ عن إيمانه وعبادته { عَلَىٰ حَرْفٍ } أي: شاكاً منتظراً على طرف بلا جزم منه فيه، وطمأنينة كالذي يتمكن يوم الوغى على طرف الجيش متردداً منتظراً، إن أحس الظفر قرَّ في مكانه وتمكن، وإلا فرَّ، كذلك هذا المؤمن المتزلزل { فَإِنْ أَصَابَهُ } بعدما آمن وأسلم { خَيْرٌ } أي: شيء سُرُّه وينشطه { ٱطْمَأَنَّ بِهِ } وتمكن لأجله متفائلاً بالإيمان والإسلام { وَإِنْ أَصَابَتْهُ } بعد اختياره الإيمانَ والإسلام { فِتْنَةٌ } أي: بليةُ ومصيبةُ تُمِلْه { ٱنْقَلَبَ } ورجع { عَلَىٰ وَجْهِهِ } أي: وجْهته وجِهَته التي تركها من الكفر متطيراً متشائماً بالإيمان والإسلام وبالجملة { خَسِرَ } ذلك المتزلزل المتذبذب { ٱلدُّنْيَا } بأنواع البليات والمصيبات { وَٱلأَخِرَةَ } بالحرمان عن درجات الجنان والخلود في دركات النيران بأنواع الخسران { ذٰلِكَ } الخسران المستوعب للنشأتين { هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } [الحج: 11] العظيم، لا خسران أعظم منه وأفحش، وكيف لا يخسر ذلك المردود المطرود.
{ يَدْعُواْ } ويعبد { مِن دُونِ ٱللَّهِ } المتصف بجميع أوصاف الكمال المستحق للعبادة والإطاعة استحقاقاً ذاتياً ووصفياً { مَا لاَ يَضُرُّهُ } أي: شيئاً، إن عصاه ولم يؤمن به لا يتأتى منه الضرب والانتقام { وَمَا لاَ يَنفَعُهُ } أي: إن أطاعه وعبده حق عبادته، لا يتأتى منه أن يثيبه ويغفر له ويحسن إليه { ذٰلِكَ } أي: الإطاعة والانقياد لشيء لا يرجى منه النفع والضر { هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ } [الحج: 12] عن الهداية والتوحيد بمراحل خارجة عن الحصر والتعديد.
بل { يَدْعُو } ذلك الضال الغوي { لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ } بسبب اتخاذه شريكاً معه في استحقاق العبادة جهلاً وعناداً، مع أنه الواحد الأحد الصمد المستقل بالألوهية والربوبية، ودخولُ المشرك في النار محقق، مقطوعُ به، فيكون ضره أقرب { مِن نَّفْعِهِ } الذي توهمه أن يشفع لأجله عند الله، والشفاعةُ عنده إنما هي بإذنه سبحانه أيضاً فثبت ألاَّ نفع له، واللهِ { لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ } المعين الناصر الشفيع الأصنام والأوثان الخسيسة { وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ }[الحج: 13] أي: الكفار الذين يعبدونهم ويوالونهم ويتخذونهم أرباباً يطمعون منهم الشفاعة عند الله، من أن ترك المحقق المجزوم، وأخذ المعدوم الموهوم ما هو إلا كفر باطل وزيغ عاطل زائل.
ربنا اهدنا بفضلك إلى سواء السبيل.