أوردَ سبحانه في كتابه قصتهما وحكم بينهما فقال سبحانه: {هَـٰذَانِ} الفوجان؛ يعني: المؤمنين واليهود {خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ} مع وحدة ذاته وشمول تربيته وألوهيته لجميع البرايا {فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} بالله المتوحد بذاته وأثبتوا له شركاً، وفرقوا بين كبته ورسله بالإقرار والإنكار، والتصديق والتكذيب {قُطِّعَتْ} أي: أعدت وهيئت {لَهُمْ ثِيَابٌ} وملابس متخذة {مِّن نَّارٍ} شبهها بالثبات لإحاطتها وشمولها ومع ذلك {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ} [الحج: 19] الماء الحار البالغ نهاية الحرارة.
بحيث {يُصْهَرُ} ويذاب {بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} من الشحوم وغيرها {وَ} كذا يذاب به {ٱلْجُلُودُ} [الحج: 20].
{وَلَهُمْ} أي: لردهم ودفعهم زجراً وقهراً {مَّقَامِعُ} سياط مصنوعة {مِنْ حَدِيدٍ} [الحج: 21] بيد مَن ءوكل عليه من الزبانية {كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا} أي: من النار {مِنْ غَمٍّ} وَهَمٍّ وكآبة، عرض لهم من شدة العذاب، فطلبوا الخروج تخفيفاً، وترويحاً حين التقطهم اللهب إلى الطرف الأعلى منها {أُعِيدُواْ فِيهَا} زجراً ضاربين عليهم بالمقامع {وَ} قائلين لهم {ذُوقُواْ} أيها المصرون على الكفر والعناد، المسرفون المفسدون بأنواع الفجور والفساد {عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ} [الحج: 22] المحرق أكبادكم بدل ما تبردونها بالسحت والرشى.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة: {إِنَّ ٱللَّهَ} المتجلي على أهل الإيمان بالتجليات الحبّية الجمالية {يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ} بتوحيد الله مخلصين {وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ} المقبولة عنده المقربة إليه {جَنَّاتٍ} وحدائق ذات بهجة ترويحاً لهم وتفريحاً، وانشراحاً لصدورهم، وتفريحاً لغمومهم حيث {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ} المُذهِبة للهموم الفارجة للكروب {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} تذهيباً وتزينناً لظواهرهم من عكوس بواطنهم {مِنْ أَسَاوِرَ} متخذة {مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} بها يرصع أساورهم {وَلِبَاسُهُمْ} دائماً {فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] تلييناً لبشرتهم وتكميلاً لترفههم وتنعمهم.
{وَ} لا يقتصر عليهم فيها على تزيين الظاهر وتفريح الباطن، بل {هُدُوۤاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ} ليتصفوا بالصدق والتصديق، ويداوموا على شكر الله بقولهم: الحمد لله الذي صدقنا وعده، وبقولهم: الحمد لله الذي هدانا لهذا، {وَ} بعدما تصفوا بالصدق والعدالة في الأقوال والأفعال {هُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ} [الحج: 24] الذي هو التوحيد المسقط للإضافات مطلقاً، سمي به لاستحقاقه الحمد لذاته.
ثم قال سبحانه: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} بتوحيد الله وأعرضوا عن شعائر دينه {وَ} مع ذلك هم {يَصُدُّونَ} ويصرفون الناس أيضاً {عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ} ومعالم الهدى واليقين لا في وقت دون وقت بل دائماً مستمراً {وَ} خصوصاً عن {ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} الذي منه الصد والمنع مطلقاً؛ لأنه {ٱلَّذِي جَعَلْنَاهُ} قبله {لِلنَّاسِ} كافة، وفرضنا عليهم الطواف حولها من استطاع منهم إليها سبيلاً، ولهذا ما صارت مكة ومن حولها ملكاً لأحد، بل صار الكل فيها {سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ} المقيم {فِيهِ وَٱلْبَادِ} المسافر الوارد عليه {وَمَن يُرِدْ} ويقصد سواءاً بالنسبة إليه من صدود وغيره مع أنه مقيم {فِيهِ} وصدر ذلك عنه {بِإِلْحَادٍ} وميل مقرون {بِظُلْمٍ} أي: عن قصد وعمد لا عن خطأ وسهوٍ ونسيان {نُّذِقْهُ} بمجرد قصده الذي لم ينته إلى الفعل والصدور {مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] مؤلم فجيع.