خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
٧٥
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ
٧٦
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٧٧
وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ
٧٨
-الحج

تفسير الجيلاني

ومن علو شأنه، وسمو برهانه، وكمال قوته، وعزته يُتوسل إليه، ويُتوصل نحوه بوسائل ووسائطَ اختارها الله واجتباها من بين بريته لإهداء التائهين في بيدان ألوهيته إلى زلال توحيده على مقتضى سنته، وجري حكمته، كما بيَّن في كتابه حيث قال: { ٱللَّهُ } العلي المتعال ذاته عن أن يكون شرعة كل وارد، أو يطلع على سرائر أسمائه وصفاته واحدُ بعد واحدٍ، بل { يَصْطَفِي } ويختار { مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ } المقربين عنده { رُسُلاً } يرسلهم إلى خواص البشر، وخَلَّص العباد { وَ } أيضاً يصطفي ويختار { مِنَ } خيار { ٱلنَّاسِ } رسلاً يرسلهم إلى عموم عباده بالنبوة والرسالة ليرشدوهم إلى توحيده سبحانه ويهدوهم إلى سواء طريقه { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع لاستعدادات عباده { سَمِيعٌ } يسمع أقوالهم ومناجاتهم ويقضي حاجاتهم { بَصِيرٌ } [الحج: 75] يبصر أعمالهم وأفعالهم ويجازيهم عليها، لأنه: { يَعْلَمُ } سبحانه بعلمه الحضوري { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } حالاً { وَمَا خَلْفَهُمْ } ماضياً واستقبالاً { وَ } بالجملة { إِلَى ٱللَّهِ } الذي بدأ منه ما بدأ { تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } الحج: 76] الكئنة أزلاً وأبداً، ظاهراً وباطناً، حالاً ومآلاً، دنياً وآخره.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بتوحيد الله ورجوع الكل إليه أولاً وبالذات { ٱرْكَعُواْ } نحوه خاضعين منكسرين { وَٱسْجُدُواْ } له متذللين متواضعين { وَاعْبُدُواْ } بجميع أركانكم وجوارحكم { رَبَّكُمْ } الذي ربَّاكم بأنواع النعم كي تعرفوا ذاته حسب استعداداتكم، وتشكروا نعمه وحقوقَ كرمه مقدارَ وسعكم، وتعبدوه حق عبادته قدر طاقتكم { وَ } بالجملة: { وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ } على وجه أمرتم به طلباً لمرضاته، واحذروا الشر خوفاً من سخطه وحلول غضبه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الحج: 77] وتفوزون بما وُعدتم من الجنة المأوى وشرف اللقيا فيها.
وفقنا بفضلك وجودك على ما تحب منَّا وترضى.
{ وَ } بعدما سمعتم ما سمعتم من علو شأنه سبحانه، وكمال عظمته وكبريائه { جَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ } واجتهدوا في سبيل توحيده { حَقَّ جِهَادِهِ } أي: ابذلوا وسعكم وطاقتكم في سلوك طرق التوحيد، مرابطين قلوبكم إلى الله، باذلين مهجكم في الفناء فيه، وكيف لا تجاهدون وترابطون أيها المائلون إلى الله بالميل الحبّي الشوقي مع أنه { هُوَ } سبحانه { ٱجْتَبَاكُمْ } واصطفاكم من بين البرايا لإدراك توحيده والاتصاف بعرفانه، وأرسل عليكم الرسل، وأنزل عليكم الكتب ليرشدكم إليه، ويبينوا لكم طريق توحيده بوضع المناهج والشرائع الموصلة إلأيه، والأديان المثمرة له { وَمَا جَعَلَ } سبحانه { عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ } الموضوع فيكم { مِنْ حَرَجٍ } ضيق وعسر خارج عن وسعكم وطاقتكم، بل وسّع سبحانه عليكم أمر دينكم بأن جعل ملتكم { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } صلوات الرحمن عليه، إذ لا ضيق فيه ولا حرج.
أضاف أبوة إبراهيم إلى الأمة من أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول أب لهم؛ إذ رسول كلِّ أمة أ بُ ب النسبة إلى أمته، بل هو خير الآباء؛ لإرشادهم إلى طريق الحق، ولا معنى للأب إلا المرشد المربي.
وكما جعل سبحانه ملتكم ملة إبراهيم { هُوَ } بذاته { سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } في كتبه السالفة حيث قال سبحانه: من يؤمن ويصدق بمحمد خام النبوة والرسالة يصير مسلماً { وَفِي هَـٰذَا } الكتاب بيَّنَ التسمية على وجه التسليم فسماكم فيه أيضاً: مسلمين ضمناً، وإنما سماكم مسلمين مسلِّمين منقادين { لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ } الذي هو أكمل الرسل وأفضل الأنبياء { شَهِيداً عَلَيْكُمْ } شاهداً على انقيادكم وتسليمكم في يوم الجزاء، فتكونوا أفضل الأمم وأشرف الفرق، وبواسطة كونكم أ مته وزمرته وتحت لوائه { وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى } عموم { ٱلنَّاسِ } بتبليغ الرسالة إليهم وإظهار الدعوة لهم، وإذا كنتم خير أمة وأشرفَ طائفة { فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } وأديموا الميل والتوجه نحو الحق بجميع الجوارح والأركان تقرباً إليه شوقاً وتحنناً { وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ } المسقطة لميلكم إلى زخرفة الدنيا وحطامها { وَ } بالجملة { ٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ } في كل الأحوال، واثقينَ بفضله وجوده، وفوضوا أمروكم كلها إليه، متوكلين عليه { هُوَ مَوْلاَكُمْ } أي: ناصركم ومعينكم ومولّي أموركم { فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ } الولي المعين { وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ } [الحج: 78] الناصر المعين، ذو القوة المتين، حسبنا الله ونعم الوكيل.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك المجاهد في سبيل الله أعداءَ الله وموانعَ الوصول إلى توحيده أن تجاهد أولاً مع نفسك التي بين جنبيك، إذ هي من أعدى عدوك، وأشد صولة واستيلاء إلى مملكة باطنك وقلبك الذي هو مخيم سرادقات سلطان الوحدة، ومحل نزول قهرمان العزة، ومهبط الوحي الإلهي والوارد الغيبي، فلك أن تزيل صولتها، وتشتت شملها، وتفرق جمعها التي هي جنودها وأنواعها من القوى الشهوانية والغضبية، وجميع الأوصاف البهيمية المتداعية إلى تخريب القلب، وتعمير النفس الأمّارة بالسوء، وتقويتها وتقويمها؛ إذ عداوتها ومنعها ذاتية حقيقية وبلا واسطة، وعداوةُ سائر الموانع بواسطتها.
وإياك الإطاعة والانقياد إليها، فإنها تشغلك عن الحق، وتضلك عن سبيله وتغريك إلى الباطل وتقودك إلى طريقه.
فاعلم أيها المجاهد الطالب للغلبة على جنود النفس الأمارة أنه لا يمكن لك هذا إلا بالاعتزال عن إقطاع الشيطان ومهلكة النفس ومشتهياتها ومستلذاتها بالكلية، والتشمر نحو الحق بالعزيمة الخالصة عن الرياء والرعونات والانخلاع عن مقتضيات الأوصاف البشرية بالإدارة الصادقة، والتوجه نحو الوحدة الذاتية عن طريق الفناء بإسقاط الإضافات المشعرة لتوهم الكثرة.
وبالجملة لا يتم سلوك السالك في طريق التوحيد إلا بالفناء في الله، والبقاء ببقائه.
ربنا هب لنا من لدنك جذبة تنجينا عن مضائق هوياتنا، وتوصلنا إلى فضاء توحيدك بمنك وجودك.