ثم أشار سبحانه إلى تطهير ذيل عائشة - رضي الله تعالى عنها - عما رماها وافتراها أهل الزيغ والضلال جهلاً بحالها وعلوِّ شأنها، وكمال عصمتها وعِفَّتها، فقال: { إِنَّ } المفسدين المسرفين { ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ } أي: بالكذب الصارف عن الحق { عُصْبَةٌ } أي: فرقةُ وعصابةُ معدودةُ { مِّنْكُمْ } أيها المؤمنون المقذوفون مع أنهم { لاَ تَحْسَبُوهُ } ولا تظنوه أي: الإفكَ الذي جاءوا به { شَرّاً لَّكُمْ } ولحوقَ عارٍ عليكم { بَلْ هُوَ } أي: إفكُهم { خَيْرٌ لَّكُمْ } وسببُ ثوابٍ عظيمٍ وأجر جزيلٍ، و ظهور كرامةٍ، ونزول آياتٍ عظام في براءتكم وطهارتكم وتهويل شأنكم.
وصار { لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ } أي: من القاذفين المفتريين جزاء { مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإِثْمِ } والإفكِ الذي جاءوا به ظلماً وزوراً { وَ } لا سيما الشخصَ { ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ } أي: معظم الآفكين، وهو الذي أخذ في إفشائه وإشاعته، وهو ابن أُبيّ { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النور: 11] في الدنيا والآخرة؛ إذ هو مطرود بين المؤمنين، مشهورُ بالنافق، وله في الآخرة أشدُّ العذاب.
ثم وبّخ سبحاه على الآفكين وقرَّعتههم؛ حيث قال: { لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } أي: الإفكَ أيها الآفكومن لم تظنوا بالمذروفيْن خيراً كما { ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ } لَمْ تقولوا كما { قَالُواْ } أي: المؤمنون: { هَـٰذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } [النور: 12] وكذبُ عظيمُ وفريةُ بلا مريةٍ؛ إذ ساحة عصمتها وطهارة ذيلها ونجابة طينتها أجلُّ وأعلى من أن يُفْترى عليها أمثال هذه المفتريات الباطلة.
عصمنا الله عما لا يرضى منه سبحانه { لَّوْلاَ جَآءُوا } أي: الآفكون المسرفون وأتوا { عَلَيْهِ } أي: على إفكهم هذا { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } عدولاً لصدقوا فيما قالوا { فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ } الأربع العدول { فَأُوْلَـٰئِكَ } الآفكون المفترون { عِندَ ٱللَّهِ } المطلع لضمائرهم { هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } [النور: 13] المقصورون على الكذب، يجازيهم سبحانه على مقتضى ما افتروا من الكذب والبهتان، سيما مع أهل البيت، أهل العصمة والكرامة.
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } أيها الباهتون، المفترون بتوفيكم على الإنابة والرجوع عن هذه الفرية العظيمة { وَرَحْمَتُهُ } الشاملة لكم { فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ } وخضتم في إشاعته وإذاعته { عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النور: 14] عاجلاً وآجلاً.
{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } مع نهاية كراهته وسماجته { بِأَلْسِنَتِكُمْ } سائلاً بعضُكم بعضاً متلقياً على قبوله وسماعه { وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } لا ظنُ ولا يقينُ بل جهلُ وتخمينُ، { وَ } مع عظم هذا الجرم عند الله { تَحْسَبُونَهُ } أيها الحمقى المسرفون { هَيِّناً } سهلاً يسيراً، لا يترتب عليه شيءُ من العذاب والعقاب { وَ } الحال أنه { هُوَ } أي: رمي تلك البريئة العفيفة { عِندَ ٱللَّهِ } المطلع لعفتها وعصمتها { عَظِيمٌ } [النور: 15] فظيعُ في غاية العظمة والفظاعة، مستجلبُ لأنواع العذاب وأشد النكال؛ إذ الافتراء بآحاد الناس يوجب أشدَّ العذاب وأسوأ العقاب، فكيف بأفضلهم وأشرفهم!.
{ وَلَوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } أولاً أيها الآفكون المفترون { قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ } أي: ما يصح ويجوز { لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا } الفحش الباطل الكذب الصريح العاطل { سُبْحَانَكَ } نقدسك وننزهك من أن تمكِّن أحداً يفعل، ويقول في حق حليلة حبيبك صلى الله عليه وسلم أمثال هذا الافتراء؛ إذ { هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [النور: 16] تبهتُ، وتحيرُ منه العقول، وتضطرب الأسماع، وتتقلقل القلوب.
{ يَعِظُكُمُ ٱللَّهُ } المصلح لمفاسدكم، ويبالغ في وعظكم وتذكيركم كرهاة { أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً } ما دمتم حياً { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [النور: 17] بالله مصدقين لنبيه؛ إذ أمثال هذه الخرافات بالنسبة إلى أهل بيت النبوة من أمارات الكفر والتكذيب، وعلامات سوء الأدب مع الله ورسوله.
{ وَ } بعد صدور أمثال هذه الخرافات من أهل السرف والإفساد { يُبَيِّنُ ٱللَّهُ } المدبر { لَكُمُ ٱلآيَاتِ } الدالة على الصفح والإعراض عن أمثال هذه الافتراءات الهاتكة لأستار محارم الله، سيما مع أكرم عترة حبيبه { وَٱللَّهُ } المصلح لأحوالكم { عَلِيمٌ } بما في ضمائركم وخواطركم { حَكِيمٌ } [النور: 18] في إزالة ما يضركم ويغويكم.