خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَتَوكَّلْ عَلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ
٢١٧
ٱلَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ
٢١٨
وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّاجِدِينَ
٢١٩
إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٢٢٠
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ
٢٢١
تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
٢٢٢
يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ
٢٢٣
وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ
٢٢٤
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ
٢٢٥
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ
٢٢٦
إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ
٢٢٧
-الشعراء

تفسير الجيلاني

{ وَ } إن عادوك وعاندوا معك إلى أن قصدوا منك { تَوكَّلْ } في دفعهم وكفاية مؤنتهم { عَلَى ٱلْعَزِيزِ } الغالب لقهر الأعداء، الغالب على غضبهم وانتقامهم بأنواع البلاء { ٱلرَّحِيمِ } [الشعراء: 217] على الأولياء، ينصرهم على أعدائهم، ويدفع عنهم شرورهم.
وكيف لا يرحمك يا أكمل الرسل، ولا يكفيك مؤونة أعدائك { ٱلَّذِي يَرَاكَ } أي: القيوم القادر الذي يشاهد { حِينَ تَقُومُ } [الشعراء: 218] من منامك خلال الليل طلباً لمرضاته، ورفعاً لحاجاتك نحوه؟!.
{ وَ } يشاهد أيضاً { تَقَلُّبَكَ } وترددك جوف الليل في تفقد أحوال المؤمنين { فِي ٱلسَّاجِدِينَ } [الشعراء: 219] المتذللين نحو الحق، واضعين جباههم على تراب المذلة والانكسار شوقاً إليه وتحنناً نحوه من إفراط المودة، واشتعال نار العشق والمحبة الإلهية المطفئة لنيران الأهوية الفاسدة والآراء الباطلة.
وكيف لا يتذللون إليه ولا يتحننون نحوه { إِنَّهُ } بذاته { هُوَ ٱلسَّمِيعُ } لمناجاتهم وعرض حاجاتهم { ٱلْعَلِيمُ } [الشعراء: 220] بمقاصدهم وأغراضهم، وخلوص نياتهم وإخلاصهم في أعمالهم.
وبعدما ردَّ سبحانه قول من قال: إن القرآن منزل من قبل الشياطين لا من الملائكة وأثبت أن إنزاله منه سبحانه، وإيصاله من الروح الأمين على الرسلو الأمين؛ إذ المناسبة بينهما مرعية، والمشاكلة مثبتة، أراد أن يشير سبحانه إلى أن تنزيل الشياطين وتسويلاتهم إنما هو لأوليائهم الذين كملت نسبتهم إليهم، وصحت مناسبتهم معهم.
فقال: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ } وأخبركم أيها المسرفون المترددون في أمر القرآن وإعجازه وإنزاله من قبل الحق القادحون فيه بنسبته إلى تنزيل الشيطان، أو إلى الشعر الذي هو من جملة وساوسه وتخيلاته، مع أنه مشتمل على معارف وحقائق، ورموزات وشهودات لا يسع الإتيان بها والتعبير عنها إلا لمن هو علام الغيوب، مطلع على سرائر أرباب الكشف والشهود، أُخبركم { عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ } [الشعراء: 221] للإضلال والوسوسة، والتحريف عن طريق الحق، والتغرير بالأباطيل؟.
{ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ } مبالغ في الإفك والافتراء { أَثِيمٍ } [الشعراء: 222] مغمور في الإثم والعصيان، وأنواع الفسوق والطغيان.
ليتحقق مناسبته مع الشياطين الذين { يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ } للملائكة، ويصغون منهم بعض المغيبات لا على وجهها؛ غرضهم من الإصغاء الإفساد والرد لا الإصلاح والقبول { وَ } لذلك { أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [الشعراء: 223] فيما يسمعون ويلقون؛ إذ هم يحرفونه ويزيفون ترويجاً لما هم عليه من الفساد والإفساد، وتغريراً لأوليائهم بأنواع التغريرات.
{ وَ } من جملة أولياء الشياطين المنتسبون إليهم بالنسبة الكاملة الكاذبة: { ٱلشُّعَرَآءُ } المذبذبون بين الأنام بأكاذيب الكلام وأباطيله؛ لذلك { يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ } [الشعراء: 224] الضالون من جنود الشياطين، المستتبعون لهم؛ لترويج أباطيلهم الزائفة.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ } ومن تابعهم من الغواة { فِي كُلِّ وَادٍ } من أودية الضلالة والطغيان { يَهِيمُونَ } [الشعراء: 225] يترددون حيارى تائهين بلا ثبات ولا قرار، مترددين في معاشهم ومعاهدهم.
{ وَأَنَّهُمْ } من غاية غفلتهم وسكرتهم في أمور معاشهم { يَقُولُونَ } بأفواههم، ويخبرون بألسنتهم تلقفاً { مَا لاَ يَفْعَلُونَ } [الشعراء: 226] من الأخلاق و الحكم والمواعظ، والرموز والإشارات التي تصدر عنهم هفوة، وهم لا يمتثلون بها أصلاً.
{ إِلاَّ } الشعراء { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بتوحيد الله، واتصفوا بالحكمة المعتدلة المودعة في قلوبهم، الظاهر أثرها من ألسنتهم، ومضوا على مقتضى الاعتدال المعنوي الذي جبلهم الحق عليه بلا تلعثم منهم، وتزلزل عن مقتضى فطرتهم { وَ } مع ذلك { عَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } من الأعمال المصلحة لمفاسدهم، المهذبة لأخلاقهم وأطوارهم { وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ } المستوي على صراط العدالة والاستقامة في أشعارهم وقصائدهم { كَثِيراً } في عموم أوقاتهم وحالاتهم؛ بل أكثر أشعارهم إنما هي لإثبات توحيد الحق ومعارفه وحقائقه ورموز أرباب الكشف والعرفان، والتذكيرات المتعلقة بترك المألوفات وقطع التعلقات المنافية لصفاء مشرب التوحيد.
وبعض أشعارهم متعلق بردع أهل الأهواء والآراء، وهتك محارمهم وأعراضهم وتعداد مقابحهم وزذائلهم { وَ } ذلك بأنهم { ٱنتَصَرُواْ } بأشعارهم هذه { مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } من أيدي الجهلة، وألسنة الكفرة المتعنتين المستكبرين على أرباب المحبة والولاء من المنقطعين نحو الحق، السالكين في سبيل توحيده.
{ وَ } بالجملة: { سَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ } على أهل الحق، وآذنوهم بالسنان واللسان وأنواع القدح والطغيان، ونسبوهم إلى الإلحاد والفساد، ورموهم بأنواع الفسوق والفساد مع أنهم على صرافة التوحيد متمكنون، ومن أمارات الكثرة والتقليد متنزهون، وسيعلم أولئك الرامون المفرطون المسرفون { أَيَّ مُنقَلَبٍ } أي: مرجع ومآب { يَنقَلِبُونَ } [الشعراء: 227] ويرجعون، أيدخلون إلى حضرة النيران والخذلان منكوسين، أم إلى روضة الرضا مسرورين؟.
ألاَ أن أولياء الله
{ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 274].
خاتمة السورة
عليك أيها السالك المراقب لاعتدال الأطوار والأخلاق والأعمال، وجميع الشئون والأحوال المتعلقة بنشأتي الدنيا والعقبى، أن تراجع ذوقك ووجدانك في جميع ما جرى عليك من الأحوال، وتتأمل فيها حق التأمل إلى أن تطلع بمبدئه ومنشئه، ثمَّ تتفكر في صدوره، هل هو على مقتضى الاعتدال والقسط الإلهي، أم على مقتضى الهوى الغالب الذي هو من جنود الأمَّارة المستمدة عن إغواء الشيطان وإغرائه؟.
فإنه وجدته على مقتضى القسط الإلهي والعدل الجبلي، فطوبى لك، وإن وجدته القالعة لعرق الأماني، والمرادات المتعلقة بمستلذات الدنيا الفانية، وتواظب على أشق الطاعات وأتعب العبادات من صيام الأيم، ومشي الأقدام، وانقطاع صحبة الأنام، والاعتزال بين الجبال والآجام، والعكوف في الخلوات، والاشتغال بالميل والصلوات المقربة نحو الحق؛ حتى تعتدل أوصافك وأخلاقك، وتستقيم أفعالك وأحوالك، فحيئذٍ انكشف لك باب التوحيد، وانغلق عليك مداخل الرياء والسمعة والعُجب، وأنواع الكدورات اللاحقة من الخلطة والمؤانسة مع الناس، والمصاحبة معهم المكدرة لصفاء شرب التوحيد.
واعلم يا أخي أن أرباب المحبة الكاملة والولاء التام، هم الذين يبذلون مهجهم في سلوك سبيل الفناء بلا التفات منهم إلى أحد من الناس، لا خيراً ولا شراً، ولا نفعاً ولا ضراً، بل هم من كمال حيرتهم واستغراقهم في مطالعة جمال الله وجلاله لا يلتفتون إلى نفوسهم، فكيف إلى غيرهم؟!.
ولا يتيسر لك هذا إلا بتوفيق إلهي وجذب من جانبه، وبمتابعة حبيبه صلى الله عليه وسلم في أطواره وأخلاقه وجميع سننه وآثاره، وبملازمة خدمة مرشد كامل، منبه نبيه، يوقظك من منام غفلتك، ويرشدك إلى منتهى مقصدك وقبلتك.
ربِّ هب لي من لدنك حكمةً وحكماً، وألحقني بالصالحين.
تم الجزاء الثاني من تفسير القرآن الشريف لحضرة سلطان الأولياء على الإطلاق سيدي وسندي السيد الشيخ أبي محمد عبد القادر الجيلاني الشهير الذي ارتفع قدره وسما ذكره، رضي الله عنه وأرضاه.