خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ
٧٥
أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ ٱلأَقْدَمُونَ
٧٦
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ
٧٧
ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ
٧٨
وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ
٧٩
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ
٨٠
وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ
٨١
وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ
٨٢
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ
٨٣
وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ
٨٤
وَٱجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ ٱلنَّعِيمِ
٨٥
وَٱغْفِرْ لأَبِيۤ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ
٨٦
وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ
٨٧
يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ
٨٨
إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
٨٩
وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
٩٠
وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ
٩١
-الشعراء

تفسير الجيلاني

{ قَالَ } لهم إبراهيم على سبيل النصيحة والتذكير: { أَفَرَأَيْتُمْ } وعلمتهم أن { مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } [الشعراء: 75] من دون الله؟!.
{ أَنتُمْ } في مدة أعماركم { وَآبَآؤُكُمُ ٱلأَقْدَمُونَ } [الشعراء: 76] فيما مضى عليهم من الزمان لا يليق بالألوهية، ولا يستحق للإطاعة والانقياد؛ إذ الإله المستحق بالعبودية لا بدَّ وأن يتصف بالصفات الكاملة، وأن يكون له نفع وضر، وثواب وعقاب؛ حتى يُعبد له، وهؤلاء معطلون عن أوصاف الألوهية مطلقاً.
{ فَإِنَّهُمْ } أي: الآلهة الباطلة { عَدُوٌّ لِيۤ } نسب عداوتهم لنفسه أولاً إمحاضاً للنصح؛ إذ التجه إليهم والتذلل نحوهم يجلب عذاب الله ونكاله، فهم وعبادتهم من أسباب غضب الله وقهره، فلكم ألاَّ تتوجهوا نحوهم، ولا تعبدوا غير الله سبحانه إلهاً، كما أني ما أتوجه وأعبد { إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 77] إذ هو المستحق للعبودية والألوهية ذاتاً ووصفاً.
وكيف ولا هو { ٱلَّذِي خَلَقَنِي } أي: أوجدني وأظهرني من كتم العدم { فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء: 78] إلى توحيده واستقلاقه في الوجود والتصرف؟!.
{ وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي } إن افتقرت إلى الغذاء { وَيَسْقِينِ } [الشعراء: 79] حين احتياجي إلى الماء.
{ وَ } كذا { إِذَا مَرِضْتُ } من اختلاف الأمزجة وتداخل الأغذية { فَهُوَ يَشْفِينِ } [الشعراء: 80] باعتدالها واستقامتها.
{ وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي } حين حلول أجلي، وانقضاء مدة حياتي في النشأة الأولى { ثُمَّ يُحْيِينِ } [الشعراء: 81] في النشأة الأخرى؛ للعرض والجزاء.
{ وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ } وأرجوا من سة رحمته وجوده { أَن يَغْفِرَ لِي } ويمحو عني جميع { خَطِيئَتِي } التي صدرت عني في دار الاختبار، ويعفو زلتي فيها { يَوْمَ ٱلدِّينِ } [الشعراء: 82] والجزاء.
{ رَبِّ } يا من رباني بلطفك، وهداني إلى توحيدك { هَبْ لِي حُكْماً } يقيناً عليماً وعينياً؛ حتى أستحق أن تفيض عليَّ اليقين الحقي الذي صرت به مستحقاً لمرتبة الخلة والخلافة { وَأَلْحِقْنِي } بعدما وهبت لي من حِكمك وأحكامك ومعارفك ما قدرت لي { بِٱلصَّالِحِينَ } [الشعراء: 83] المرضيين عندك، المقبولين في حضرتك.
{ وَٱجْعَل لِّي } بفضلك وجودك { لِسَانَ صِدْقٍ } أي: لساناً يتكلم بالصدق في حِكمك وأحكامك، ومعارفك وحقائقك، وجميع أوامرك ونواهيك، بحيث يدوم أثر صدقي في أقوالي وأفعالي وأحوالي، وفي جميع أطواري وأخلاقي { فِي ٱلآخِرِينَ } [الشعراء: 84] أي: اللاحقين من عبادك؛ لذلك ما من دين من الأديان إلاَّ وله - صلوات الرحمن عليه وسلامه - فيه أقوال وأفعال وأخلاق منسوبة إليه، مسلمة منه، معمولة بمتابعته.
{ وَ } بالجملة: { ٱجْعَلْنِي } بسعة رحمتك، ووفور إحسانك وعطيتك { مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ ٱلنَّعِيمِ } [الشعراء: 85] أي: من الذين يرثون من فضلك وجودك مرتبة الرضا والتسليم؛ إذ لا نعمة أجلَّ منها، وأتم عند المنقطعين نحوك والمتشوقين بلقياك.
{ وَٱغْفِرْ لأَبِيۤ } واعفُ عن زلته وذنوبه إن سبقت عنايتك له في سابق قضائك وحضرة علمك { إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ } [الشعراء: 86] التائهين في تيه الغفلة والغرور.
{ وَ } بالجملة: { لاَ تُخْزِنِي } ولا تُخجلين من فعل نفسي وأبي يا رب { يَوْمَ يُبْعَثُونَ } [الشعراء: 87] أي: الأموات، ويحشرون من قبورهم نحو العرصات؛ لعرض الأحوال وجزاء الأعمال، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وأي يومٍ { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ } فيه { مَالٌ } حتى يفديه صاحبه ويخلص من العذاب، أو يخفف العذاب لأجله { وَلاَ بَنُونَ } [الشعراء: 88] يظاهرون لآبائهم وينقذوهم من عذاب الله؟!.
وذلك يوم لا مخلّص فيه لأحدٍ من عذاب الله من ذوي المعاصي والآثام { إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ } المطلع لسرائر العباد وضمائرهم { بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء: 89] خالٍ عن الميل إلى الهوى ومزخرفات الدنيا، خالصٍ عن رعونات العُجب والرياء، مخلص في التوجه نحو المولى بلا طلب الثواب منه والجزاء؟ بل لمحض الرضاء والامتثال بما أمره ونهى راضياً في كل الأحوال بما جرى عليه من نفوذ القضاء.
{ وَ } في تلك الحالة التي أتوا كذلك { أُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ } أي: قَرُبت { لِلْمُتَّقِينَ } [الشعراء: 90] الذين يتقون ويحذرون عن محارم الله؛ استحياءَ منه وطلباً لمرضاته، بحيث يرونها ويسرعون إلكيها تشوقاً وتحنناً، ويتفطنون أنهم يدخلون فيها خالدين مؤبدين.
{ وَ } كذا { بُرِّزَتِ } وأُظهرت { ٱلْجَحِيمُ } المسعر { لِلْغَاوِينَ } [الشعراء: 91] الذين يضلون عن طريق الحق في النشأة الأولى بالميل إلى ال هوى وإلى مستلذات الدنيا والإعراض عن إرشاد الأنبياء الأولياء، والمصاحبة مع أهل الولاء والآراء والأهواء الباطلة المضلة عن صراط الله الأعدل الأقوم، واتخاذ الآلهة الباطلة على مقتضى أهويتهم الفاسدة.