خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٥
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ
١٦
وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ
١٧
حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
١٨
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ
١٩
-النمل

تفسير الجيلاني

{ وَ } من سعة جودنا، وعموم فيضنا وفضلنا { لَقَدْ آتَيْنَا } وأعطينا { دَاوُودَ وَ } إبنه { سُلَيْمَانَ عِلْماً } متعلقاً بالحكم والأحكام، وعموم تدبيرات الأنام، وضبط أحوالهم وأوضاعهم المتداولة بينهم من الإنصاف والانتصاف وإقامة الحدود، وسد الثغور وغيرها من الأمور المتعلقة بضبط المملكة.
{ وَقَالاَ } بعدما آرادا أن يشكرا الله، ويؤديا حقوق نعمه الجليلة، ومنحه الفائضة الجزيلة: { ٱلْحَمْدُ } والمنة، والثناء التام الناشىء من عموم الألسنة، وجميع الجوارح الممنونة من نعمه، المغمورة بموائد لطفه وكرمه { لِلَّهِ } الواحد الأحد الصمد، المستحق لعموم المحامد والأثنية الصادرة من ذرائر الأكوان طوعاً { ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [النمل: 15] له، الموحدين بذاته، المصدقين لأنبيائه ورسله وكتبه، وخصصنا من بينهم بمزيد الكرامة المتعلقة برئاسة الدارين، وسيادة النشأتين، وحكومة الثقلين، والحكمة المتقنة المتعلقة بمرتبتي الناسوت واللاهوت، وحضرة الرحموت والجبروت.
{ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } يعني: بعدما انقرض داوود استخلف عنه سليمان عليه السلام، وورث من نبوته وحكمته وحكومته، وسخر له جميع ما سخر لداوود مع زيادات خلال عنه أبوه عليه السلام، وهو تسخير الجن والريح ومنطق الطيق، فإنها ما تيسر لأبيه { وَ } بعدما تمكن سليمان عليه السلام على مقر الحكومة والنبوة { قَالَ } يوماً للملأ الجالسين حوله تنويهاً وتشهيراً لنعم الله على نفسه: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا } بلسان الوحي وترجمانه { مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا } من فضل الله علينا { مِن كُلِّ شَيْءٍ } أي: كثير من الأشياء ما لم يُؤت مثله أحدٌ من العالمين { إِنَّ هَـٰذَا } الإعطاء والتخصيص والتفضل { لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ } [النمل: 16] الظاهر اللائح فضله على كل أحد، والملك العظيم الذي لم يؤتَ أحدٌ من الأنبياء.
{ وَ } اذكر يا أكمل الرسل يوم { حُشِرَ } وجمع { لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ } وكان معسكره مسيرة مائة فرسخ، خمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، تمشي كلُّ طائفة منهم مع بني نوعه صافين مستوين، وإن تسابق بعضهم على بعض { فَهُمْ } حينئذٍ { يُوزَعُونَ } [النمل: 17] ويحبسون؛ حتى يتلاحقوا ويتساوى صفوفهم، وكان سليمان عليه السلام يأمر الريح فترفعه فوق رءوسهم مشرفاً عليهم، فتسير معه رخاءً.
ومن كمال فضل الله عليه أنه ما تكلم أحد منهم بكلام إلا حملته الريح وألقته في سمعه، فبينا هو يسير مع عسكره هكذا رآه، وجنده حراث، فقال مستغرباً: والله لقد أوتي آل داوود ملكاً عظيماً، فمشى سليمان عليه السلام إليه، فقال له: إنما مشيت إليك؛ لأوصيك ألاَّ تتمنى ما لا تقدر عليه، ثمَّ قال: والله لتسبيحة واحدة يتقبلها الله خير مما أوتي آل داوود.
وكان عليه السلام مع جنوده على الوجه الذي ذكر { حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ } هو وادٍ بالشام كثير النمل؛ لذلك سميت به { قَالَتْ نَمْلَةٌ } بعدما رأت سواد العسكر، و أشعرت بعبورهم على الوادي منادية لإخوانها، صائحة عليهم، صارخة: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ } الضعيف النحيف { ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ } مسرعين متحرزين، ولا تقفوا في الصحراء حتى { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } ولا يطأنكم { وَهُمْ } بحوافر خيولهم { سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ } وإن كانوا من أرباب البر والتقوى، محترزين عن أمثال هذا الظلم الصريح إلاَّ أنهم { لاَ يَشْعُرُونَ } [النمل: 18] بكم؛ لصغركم وحقارتكم فيطئوكم بلا شعور وإدراك.
وبعدما سمع سليمان عليه السلام من النملة ما سمع { فَتَبَسَّمَ } تبسماً ظاهراً إلى أن صار { ضَاحِكاً } متعجباً { مِّن قَوْلِهَا } المشتمل على أنواع التدابير والخيرات من حسن المعاشرة مع الجيران، وآداب المصاحبة مع الإخوان، والتحذير عن مظان المهالك والمتالف قبل الوقوع فيها وغير ذلك.
{ وَ } بعدما اطلع سليمان على قولها وغرضها توجه نحو الحق عادّاً على نفسه جلائل نعم الله وآلائه، حيث { قَالَ } حينئذٍ مناجياً إليه سبحانه: { رَبِّ } يا من رباني بأنواع الخيرات والكرامات التي ما أعطاها أحداً من خلقه { أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ } ووفقني على أن أؤدي حقوقها على الوجه الذي ينبغي ويليق بشأنك وشأنها، ولا يتأتى مني هذا إلا بتوفيقك وتيسيرك، وفقني على إتمامها وتكميلها.
{ وَ } يسير علي { أَنْ أَعْمَلَ } في مدة حياتي عملاً { صَالِحاً تَرْضَاهُ } أي: مقبولاً عندك، مرضياً لك { وَ } بعدما توفيتني { أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ } وسعة فضلك وجودك { فِي } زمرة { عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ } [النمل: 19] المرضيين عندك، المقبولين دونك، وعندني من عدادهم، واحشرني من زمرتهم، إنك على ما تشاء قدير، وبرجاء المؤملين جدير.