خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ ٱلَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٩١
وَأَنْ أَتْلُوَاْ ٱلْقُرْآنَ فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُنذِرِينَ
٩٢
وَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
٩٣
-النمل

تفسير الجيلاني

ثمَّ لمَّا أمر سبحانه الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أوحي إليه من الوعد والوعيد، والأوامر والنواهي المصلحة لأحوال الأنام في النشأتين، وبيان مبدئهم ومعاهدهم، وما يؤول إليه أمرهم بعدما انقرضوا من هذه النشأة التي هي دار الابتلاء والاختبار، إما إلى دركات النيران وإما إلى درجات الجنان، ثمَّ بيَّن لهم طريق الوصول إلى مقر التوحيد، والتمكن في مقام التجريد والتفريد آمراً أيضاً، بأن قال لهم إمحاضاً للنصح كلاماً ناشئاً عن محض الحكمة، خالياً عن وصمة الميل إلى الهوى: { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ } الله الواحد الأحد الصمد عبادة خالصة عن الرياء والرعونات { رَبَّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ } أراد بها مكة. شرفها الله - خصها بالإضافة للتعظيم، وإلا فهو رب جميع البلاد والأماكن { ٱلَّذِي حَرَّمَهَا } هذه البلدة من الأمور التي أباحها في غيرها من البلاد { وَلَهُ } سبحانه { كُلُّ شَيءٍ } خلقه وملكه، وتصرف فيه كشف يشاء وأراد بلا منازع ومخاصم { وَ } بالجملة: { أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [النمل: 91] المنقادين لأحكامه سبحانه، الممتثلين لأوامره ونواهيه بلا التفات إلى إيمان أحد وكفره وهدايته وضلاله.
{ وَ } أُمرت أيضاً { أَنْ أَتْلُوَاْ ٱلْقُرْآنَ } المنزل عليَّ من عند ربي، وأداوم على تلاوتة بين أظهر الأنام؛ لأنه إنما أوحي للهدى والإرشاد بالنسبة إلى جميع العباد { فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ } به بعدما سمعه وتأمل معناه، وامتثل بمقتضاه { فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } نفع هدايته عائد إليها، مفيد لها { وَمَن ضَلَّ } أي: أعرض عنه بعدما سمع واستكبر وكذب { فَقُلْ } أي: أمرني ربي أن قُلْ للمكذبين: { إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُنذِرِينَ } [النمل: 92] أي: أمري منحسر بالإنذار والتخويف كسائر الرسل المنذرين، فالهداية والضلال إنما هو مفوض إلى الكبير المتعال.
{ وَ } بعدما أمرنن ربي بهذه المأمورات المذكورة أمرني بتجديد التحميد على تبليغ ما أُحيت به بقوله: { قُلِ } بعدما تلوت عليهم ما تلونا عليك { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } على ما علمني ربي من الحقائق والمعارف، وشرفني بأنواع المكاشفات والمشاهدات، ويسر عليَّ تبليغ ما أوحي إليَّ، وأُمرت بتبليغه إلى قاطبة الأنام، وإن أعرضوا عن قبول ما بلغت لهم من مصالح دينهم في النشأة الأولى والأخرى.
قل لهم على سبيل التهديد: { سَيُرِيكُمْ } سبحانه في النشأة الأخرى وقيام الساعة الموعودة صدق { آيَاتِهِ } الدالة على عظمة ذاته، المتينة لمواعيده ووعيداته { فَتَعْرِفُونَهَا } حنيئذٍ، وتسمعونها سمع قبول ورضا، ولا يجديكم قبولها حينئذٍ نفعاً وفائدة؛ إذ قد مضى وقت الإرشاد والامتثال بها، والعمل بمقتضاها { وَ } بعدما بلغت لهم ما بلغت يا أكمل الرسل لا تبالِ بإعراضهم وإنكارهم؛ إذ { مَا رَبُّكَ } المطلع بالسرائر والخفايا { بِغَافِلٍ } ذاهل { عَمَّا تَعْمَلُونَ } [النمل: 93] من الرد والقبول بعدما سمعوا منك وفهموا معناه، يجازيهم على مقتضى إطلاعه وعلمه.
رنبا اشرح لنا صدورنا بتأمل آياتك المنزلة من عندك، ويسِّر لنا أمورنا بأن نمتثل بمقتضاها بفضلك وجودك.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المواظب على تلاوة كتاب الله اللازم للاسترشاد والاستهداء منه أن تلاحظ أولاً منطوقات ألفاظه المفردة، ثمَّ مفهومات الكلام المركب مها، ثمَّ التأمل والتدبر في رعاية المطابقة لمقتضيات الأحوال الموردة لأجلها، ثمَّ لتعمق في الأساليب والأغراض المسوقة لها الكلام، ثمَّ سرائر الأوامر والنواهي الموردة فيها، والعبر والأمثال المشتملة عليها الكلام، ثمَّ الحكم والمصالح الباعثة لإيراد الكلام على وجهها، ثمَّ التفطن والتنبه من النظم المتلو المقروء على المعارف والحقائق، والمكاشفات والمشاهدات التي هي العلل الغائية لإنشائه، والأسرار الباعثة لنظم كلماته وتأليف حروفه.
وعليك أيها الفطن الخبير أن تدرك أن
"للقرآن ظهراً وبطناً، ولبطنه بطناً إلى سبعة أبطن" على ما نطق به الحديث الصحيح، صلوات الله على قائله وسلامه.
وإياك إياك أن تقنع منه بألفاظه ومنطوقاته التي تعرفها عوام العرب، أو تقنع منه بالخواص والمزايا التي تعرفها أرباب اللسن منهم، بل لك أن تلاحظ على الوجه المذكور إلى أن صار علمك المتعلق به لدنياً ذوقياً خالياً، بحيث تسمعه من قلبك، وتفهمه بقلبك بلا وسائل الألفاظ والحروف الجارية على لسانك؛ إذ الألفاظ والحروف إنما هي من جملة الحجب الغليظة عند أولي الألباب الناظرين في لب القرآن، فحينئذٍ فزت بحظك منه، ونلت نصيبك من هدايته وإرشاده.
ربِّ هب لي بفظلك من خزائن جودك التي أودعتها في كتابك الكريم، إنك أنت الوهاب الملهم بالخير والصواب.