خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
٥٥
يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَٱعْبُدُونِ
٥٦
كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
٥٧
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ
٥٨
ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
٥٩
وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٦٠
-العنكبوت

تفسير الجيلاني

اذكر لهم يا أكمل الرسل { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ٱلْعَذَابُ } في الآخرة، كغشي أسبابها التي هي عبارة من لوازم الإمكان إياهم اليوم { مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } أي: من أعلاهم وأسفلهم، ومحيطاً بجميع جوانبهم { وَيِقُولُ } قائل من قِبَل الحق زاجراً لهم وتوبيخاً: { ذُوقُواْ } أيها المستكبرون المصرون على الكفر والعناد جزاء { مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [العنكبوت: 55] أيها المعاندون.
ثمَّ قال سبحانه على سبيل التعليم التنبيه منادياً لخُلَّص عباده الذين جلّ همهم الإخلاص في جميع ما جاءوا به من الأعمال: { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } أضافهم سبحانه إلى نفسه؛ تفضلاً عليهم، ومزيد إكرامه لهم مقتضى إيمانكم: الإخلاص والحضور معي، والتوجه إليَّّ مع فراغ البال في كل الأحوال، فإن لم تجدوا الفرصة والفراغة المذكورة في أرض لا تستقرون فيها، ولا تتمكنون عليها، بل عليكم أن تفروا وتخرجوا منها طالبين الجمعية والحضور { إِنَّ أَرْضِي } ومقر عبادي وعبادتي { وَاسِعَةٌ } فإن لم تجدوا لذة التوجه وحلاوة الرجوع إليَّ في أرض، ولم يتيسر لكم الجمعية الحاصلة المنعكسة من صفاء مشرب التوحيد فعليكم الخروج والجلاء منها، وبالجملة: { فَإِيَّايَ } في كل الأماكن والأحوال { فَٱعْبُدُونِ } [العنكبوت: 56] عبادةً مقارنة بالإخلاص والخضوع والخشوع، والتبتل والتوكل والتفويض، والرضا والتسليم، ولا تغتموا وتحزنوا بالخروج عن الأوطان والجلاء منها خوفاً من الموت الطبيعي، إن كنتم مائلين إلينا راغبين نحونا.
إذ { كُلُّ نَفْسٍ } من النفوس المستحدثة بحدوث البدن { ذَآئِقَةُ } كأن { ٱلْمَوْتِ } في أي موطنٍ ومكانٍ كانت { ثُمَّ } بعدما ذاق كأس الموت، وخلص عن قيود الهويات العدمية المانعة عن الطبيعي لإطلاق الحقيقي، فحينئذٍ { إِلَيْنَا } لا إلى غيرنا؛ إذ لا موجود في الوجود سوانا { تُرْجَعُونَ } [العنكبوت: 57] رجوع الأضواء إلى الشمس، والأمواج إلى الماء.
{ وَ } بعد رجوع الموحدين { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } موقنين { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } مقارنين إيمانهم بها، مخلصين فيها إلينا { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ } وننزلنَّهم تفضلاً منا إياهم وتكريماً { مِّنَ ٱلْجَنَّةِ } المعدة لأرباب المعرفة التوحيد { غُرَفَاً } أي: لكل منهم غرفة معينة تصير له مقراً ومنزلاً { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي: أنهار المعارف والحقائق، والمكاشفات والمشاهدات على تفاوت طبقاتهم وقدر قابليتهم { خَالِدِينَ فِيهَا } دائمين، غير متحولين عنها أصلاً { نِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } [العنكبوت: 58] الجنة وما فيها، مما لاعينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم أُولوا العزائم الصحيحة.
{ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } على جميع مشاق التكاليف ومتاعب الطاعات وأذيات الأعادي، والجلاء من الأوطان ومفارقة الخلان، وغير ذلك مما جرى عليهم من طوارق الحدثان { وَ } مع ذلك هم في جميع حالاتهم، وفي عموم ما جرى عليهم { عَلَىٰ رَبِّهِمْ } لا على غيره من الوسائل والوسائط { يَتَوَكَّلُونَ } [العنكبوت: 59] وينسبون إليه ما ينسبون لا إلى الوسائل والأسباب العادية؛ إذ الكل منه بدأ وإليه يعود، بل الوسائل كلها مطوية عندهم، والأسباب منسية لديهم، بل نظرهم مقصور على المسبب الواحد الأحد، الفرد الصمد، القيوم المطلق الذي
{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [الإخلاص: 3-4].
وبعدما أمر سبحانه المؤمنين بالجلاء ومفارقة الأوطان؛ لكسب الجمعية وحضور القلب، قالوا متخوفين عن العيلة والاضطرار في أمر المعاش: كيف نعمل ونعيش في بلاد الغربة، ولا معيشة لنا فيها، قال سحبانه تسليةً لهم، وإزالةً لخوفهم: { وَكَأَيِّن } أي: كثير { مِّن دَآبَّةٍ } تتحرك على الأرض محتاجة إلى الغذاء المقوم لمزاجها مع أنها لضعفها وعدم مكنتها { لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } أي: لا تطيق لحمل رزقها وادخاره وكسبه { ٱللَّهُ } المتكفل لأرزاق عموم عباده { يَرْزُقُهَا } من حيث لا تحتسب { وَإِيَّاكُمْ } أيضاً، وأنتم من جملة الحيوانات التي تكفل الله برزقها، بل من أجلتها، فلا تغتموا لأجل الرزق، ولا تقولوا قولاً به زل نعلكم عن خالقكم ورازقكم { وَ } لا تُخطروا أيضاً ببالكم أمثال هذا؛ إذ { هُوَ ٱلسَّمِيعُ } لأقوالكم { ٱلْعَلِيمُ } [العنكبوت: 60] بأحوالكم وبيناتكم، فعليكم أن تتقوا في كل الأحوال بالله المتولي لأمركم، مفوضين كلها إليه، متوكلين عليه، متمكنين في توكلكم وتفويضكم، راسخين فيه بلا تلعثمٍ وتزلزلٍ.