خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ
٣٣
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٣٤
إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٣٥
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ
٣٦
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٣٧
-آل عمران

تفسير الجيلاني

ثم لم وقف سبحاه محبته ورضاه لعباده على متابعة حبيبه ورسوله المصور على صورته، المتخلق بأخلاقه، صار مظنة أن يتوهم أن نسبة ظهوره إلى المظاهر كلها على السواء، فما وجه التخصيص باختيار بعض بالمتابعة؟ أشار سبحانه إلى دفعه، بأن من سنتنا تفضيل بعض مظاهرنا على بعض فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ } اختار واجتبى { ءَادَمَ } بالخلافة والنيابة، وأمر الملائكة الذين يدعون الفضيلة عليه بسجوده كرمه على جميع مخلوقاته { وَ } أيضاً اصطفى { نُوحاً } بالنجاة والخلاص، وإغراق جميع من في الأرض بدعائه { وَ } كذا اصطفى { آلَ إِبْرَاهِيمَ } أي: أهل بيته بالإمامة والخلافة، لذلك دعا إبراهيم عليه السلام ربه بألاَّ يخرج الزمان عن إمامة ذريته إلى يوم القيامة { وَ } كذا اختار { آلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [آل عمران: 33] بإرهاصات ومعجزات لم يظهر من آحد مثلها، مثل: إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى والولادة بلا أب وغير ذلك.
ثم إن اصطفاء الله إياهم ليس مخصوصاً بهم بل اصطفى منهم { ذُرِّيَّةً } أخلافاً فضلاء { بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } أي: أعلى ربتة من بعض في الفضيلة كما قال سبحانه: { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [البقرة: 253] { وَٱللَّهُ } المحيط بسرائر عباده المتوجهين نحو بابه { سَمِيعٌ } لمناجاتهم الصادرة من ألسنة استعدادتهم { عَلِيمٌ } [آل عمران: 34] بما يليق لهم من المراتب العلية.
اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من مناقب آل عمران وقت { إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ } حين ناجت ربها في سرها بلسان استعدادها وقت ظهور حملها، بإلقاء الله إياها: { رَبِّ } يا من رباني بحولك وقولك { إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } معتقاً عن أمور الدنيا كلها، خالصاً لعبادتك وخدمة بيتك لا أشغله شيئاً سواه، وكان من عادتهم تحرير بعض أولادهم الذكور لخدمة بيت المقدس شرفها الله { فَتَقَبَّلْ } بلطفك { مِنِّي } ما نذرت لك للتقرب إليك يا رب { إِنَّكَ } بذاتك وصفاتك وأسمائك { أَنتَ ٱلسَّمِيعُ } لمناجاتي { ٱلْعَلِيمُ } [آل عمران: 35] بحاجاتي.
{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } أنثى آيست { قَالَتْ } متحسرة متحيرة مشتكية إلى ربها في نذرها: { رَبِّ إِنِّي } وإن بالغت في إخلاص النية في نذري لم تقبله مني يا رب أن { وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } والأنثى لا تصلح لخدمة بيتك { وَ } لما امتدت في إظهار التحزن، وبث الشكوى والتحسر نودي في سرها: لا تجزعي ولا تحزني؛ إذ { ٱللَّهُ } المطلع لإخلاص نيتك { أَعْلَمُ } منك { بِمَا وَضَعَتْ } وما ظهرت منها من البدائع والغرائب والإرهاصات الخارقة للعادات { وَلَيْسَ } مطلق { ٱلذَّكَرُ } الذي حررر لخدمة هذا البيت { كَٱلأُنْثَىٰ } التي هي هذه؛ إذ يترتب على وجود عجائب صنع الله وبدائع قدرته لما سمعت بسمع سرها ما سمعت قالت نشطة فرحانة: { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } ليكون اسمها مطابقاً لمسماها؛ لأن مريم في لغتهم بمعنى العابدة، ولما تحققت عندها بإلهام الله وقاية الله إياها وذريتها، قالت مفوضة إلى الله: { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا } أيضاً { مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } [آل عمران: 36] لتكون هي وهم في حفظك وحمائك من إغوائه وإضلاله.
{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } ما نذرت له { بِقَبُولٍ حَسَنٍ } حتى نشطت بمكاشفة اللطف من الله بعدما آيست { وَ } بعد قبول الحسن { أَنبَتَهَا } ربها بلطفه حتى صار { نَبَاتاً حَسَناً } مظهراً لعجائب صنعه وبدائع حكمته { وَ } بعدما أنبتها وتقبلها { كَفَّلَهَا } أي: جعل كفيلها وحاضنها من أحبار البيت { زَكَرِيَّا }.
روي أن حنة لما كوشفت بأمرها بإلهام الله إياها لفتها في خرقه وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار المجاورين فيه على العادة المستمرة، وقالت: دونكم هذه النذيرة، فتخالفوا في حضانتها؛ لأنها كانت بنت إمامهم وملكهم، فقال زكريا: أنا ا؛ق بحضانتها، لأن عندي خالتها، فأبطأ إلى أن اقترعوا وكانوا سبعة وعشرين، فانطلقوا إلى نهر فألقوا فيها أقلامهم، فطفا قلم زكريا ورسبت أقلامهم، فتكلفها في بيت لا باب له إلا كوة في سقفه.
فلما أراد زكريا أن يأتي برزقها نزل منها، ولما خرج أغلق وقفل، ثم صار { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ } لتفقدها { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } من ألوان الأطعمة والفواكة، وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، والصيف في الشتاء، فتعجب من حالها إلى أن سألها { قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } من أين لك هذا الرزق الآتي الذي لا يشبه أطعمة الدنيا، والفاكهة الآتية لا على وفق العادة والأبواب مغلقة عليك؟! { قَالَتْ } بإلهام الله إياها: { هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } المتكفل لأرزاق عباده { إِنَّ ٱللًّهَ } المراقب المحافظ لتربية مظاهره { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } ما يشاء { بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران: 37] بلا إحصاء وتعديد من حيث لا يحتسب.