{ هُوَ ٱلَّذِيۤ } اصفاك يا أكمل الرسل لرسالته واجتباك لنيابته وخلافته، بأن { أَنزَلَ } تفضلاً وامتناً { عَلَيْكَ } من عنده لتصديقك وتأييدك { ٱلْكِتَابَ } المعجز لجميع من تحدى وتعارض معك تعظيماً لشأنك، وفصله بالسور والآيات الدالة على الأمور المتعلقة لأحوال العباد، وفي النشأة الأولى والأخرى؛ إذ { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } متعلقة بعموم أحوال العباد على اختلاف طبقاتهم في معاشهم معادهم من الأحكام والمعاملات والمعتقدات الجارية فيما بينهم بحسب النشأتين { هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } واجبة الاقتداء والامتثال لكافة الأنام { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } متعلقة بالمعارف والحقائق المتربتة على الحكم والمصالح المودعة في إيجاب التكليفات، والطاعات والعبادات المؤدية إليها بالنسبة إلى أولى العزائم الصحيحة المتوجهة إلى بحر التوحيد.
{ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } ميل وعدول عن طريق الحق الجامع بين الظاهر والباطن { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } ويتركون الامتثال بمحكماته جهلاً وعناداً، ولم يعلموا أن الوصول إلى المعارف والحقائق إنما تنال بتهذيب الظاهر بامتثال المحكمات، وليس غرضهم من تلك المتابعة { ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ } أي: طلب إيقاع الفتنة بين الناس إفساد عقائدهم عن منهج التوحيد { وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } إلى ما يرتضيه عقولهم وتشتهيه نفوسهم، كالمبتدعة خذلهم الله { وَ } الحال أنه { مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } على ما ينبغي { إِلاَّ ٱللَّهُ } المنزل؛ إذ تأويل كلامه لا يسع لغيره إلا بتوفيقه وإعانته { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } اللدني المؤيدون من عنده بإلهامه ووحيه بمعارف وحقائق لا تحصل بمجرد القوة البشرية إلا بتأييد منه، وجذب من جانبه { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } أي: أيقنا وأذعنا بمحكمات الكتاب ومتشابهاته جميعاً؛ إذ { كُلٌّ } منزل { مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } ومالنا أن يتفاوت فيه { وَمَا يَذَّكَّرُ } يتعظ ويتيقظ منه { إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [آل عمران: 7] المجبولون على لب التوحيد، المعرضون عن قشوره التي هي من مقتضيات القوى النفسانية، التي هي من جنود شياطين الأهواء الباطلة والآراء الفاسدة.
{ رَبَّنَا } يا من ربانا بلطفك على نشأة توحيدك { لاَ تُزِغْ } ولا تمل { قُلُوبَنَا } عن طريقك { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } عليه بإنزال الكتب وإرسال الرسل { وَهَبْ لَنَا } وتفضل علينا { مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً } علماً وعيناً وحقاً { إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ } [آل عمران: 8] بلا إعراض وأغراض.
{ رَبَّنَآ إِنَّكَ } بذاتك وأوصافك وأسمائك { جَامِعُ } شتات { ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ } شأنه { لاَّ رَيْبَ فِيهِ } ولا شك في وقوعه لإخبارك بوقوعه على ألسنة رسلك، وإنزالك في كتبك { إِنَّ ٱللَّهَ } الجامع لتشات العباد في المعاد { لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } [آل عمران: 9] الذي وعده في كتابه، بل أنجزه على مقتضى إنزاله ووحيه.