ثم لما كان إبراهيم - صلوات الرحمن عليه - مستقيماً على صراط التوحيد، مستوياً عليه ما وضع سبحانه أول معبد للموحدين إلا لأجله كما قال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} ليعبدوا فيه الله ويتوجهوا إلى جنابه {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} للبيت الذي بمكة قبل وضع المسجد الحرام، قبل وضع البيت المقدس بأربعين سنة، والحال أنه وضع {مُبَارَكاً} كثير الخير والنفع لساكنيه وطائفيه، يرشدهم إلى الإيما بالله وملائكته وكتبه ورسله {وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] يوصلهم إلى التوحيد الذاتي لو كوشفوا بسرائر وضعه وتشريعه إذ: {فِيهِ ءَايَٰتٌ} دلائل وشواهد {بَيِّنَـٰتٌ} واضحات دالة على توحيد الذات منها: {مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ} وهو مقام الرضا والتسليم {وَمَن دَخَلَهُ} ضيفاً مسلماً مفوضاً {كَانَ آمِناً} عن وسوسة الأنانية ودغدغة الغيرية، متصفاً بصفة الخلة {وَللَّهِ} أي: للوصول إلى توحيده وللتحقق بمقام عبوديته وإحسانه ويجب {عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ} الممثل عن قلب الخليل اللائق لخلعة الخلة {مَنِ ٱسْتَطَاعَ} منكم أيها الحيارى في صحارى الإمكان {إِلَيْهِ سَبِيلاً} ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من رشداً {وَمَن كَفَرَ} ولم يحج إنكاراً وعناداً {فَإِنَّ ٱلله} المستغني في ذاته عن جميع مظاهره ومصنوعاته {غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ} [آل عمران: 97] لم يبال بهم وبعابدتهم، وإنما أظهرهم وأوجب عليهم العبادة والرجوع إلى جنابه والتوجه نحو بابه؛ ليتحققوا في مرتبة العبودية، ويتقرروا فيها حتى يستحقوا الخلافة والنيابة المتفرعة على سر الظهور والإظهار.
{قُلْ} يا أكمل الرسل لمن أنكر شعائر الإسلام {يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ} المدعين للإيمان بوحدانية الله {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ} الدالة على توحيده المنزلة على نبيه الذي جاء من عنده بالتوحيد الذاتي ليكون مرسلاً إلى كافة البرايا رحمة للعالمينن؟ {وَ} لا تخافون من غضب الله وسخطه، إذ {ٱللَّهُ شَهِيدٌ} مطلع حاضر {عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98] من الإنكار والاستكبار والتحريف والاستسرار.
{قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ} المدعين الاتباع بالكتب والرسل المنزلة من عند الله {لِمَ تَصُدُّونَ} تصرفون وتحرفون {عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ} الذي هو دين الإسلام وهو الصراط المستقيم إلى صفاء الوحدة {مَنْ آمَنَ} انقاد وتدين به {تَبْغُونَهَا عِوَجاً} حال كونكم طالبين أن توقعوا فيه عوجاً وانحناء وضعفاً حتى يضعف اعتقاد المسلمين، ويتزلزون آراؤهم في أمور دينهم كما في زماننا هذا {وَ} الحال أنكم {أَنْتُمْ شُهَدَآءُ} مطلعون عن مطالعة كتبكم المنزلة من عند الله على ظهور دين الإسلام وارتفاع قدره وقدر من أوتي به ومع ذلك حرفتم الكتب وأنكرتم له عناداً واستكباراً {وَ} لا تغفلوا عن غضب الله وانتقامه؛ إذ {مَا ٱللَّهُ} العالم بالسرائر والخفيات {بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 99] من التلبيس والعناد والتحريف والتغيير.