ثم أشار سبحانه إلى أسباب النجاة والخلاص عن الوعيدات الأخروية، ونيل لذاتها ومتنزهاتها الروحانية، فقال: { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ } أي: سبحوا الله الواحد الأحد الصمد، المنزه عن شوائب النقص وسمات الكثرة مطلقاً أيها الأحرار المتوجهون نحو في السرائر والإعلان، سيما { حِينَ تُمْسُونَ } وتدخلون في المساء الذي هو أول وقت الفراغ عن الشواغل الجمسانية، وفتح باب الخلوة مع الله، والعزلة عن أسباب الكثرة مطلقاً { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [الروم: 17] وتدخلون في الصباح الذي هو نهاية مرتبة خلوتكم مع ربكم، فاغتنموا الفرصة فيه، وتعرضوا للنسمات المهبة بأنواع النفحات من قِبَل الرحمن.
وبعدما تزودوا بأنواع الفتوحات الروحانية في تلك الساعة الشريفة التي هي البرزخ بين اللذائذ الروحانية والجسمانية فاشتغلوا بالأشغال الجسمانية المتعلقة لتدبير المعاش النفساني.
{ وَ } لكم أيها المتوجهون نحو الحق أن تحمدوه وتشكروا نعمه، وتداوموا على أداء حقوق كرمه في خلال أيامكم ولياليكم، سيما طرفي النهار؛ إذ { لَهُ ٱلْحَمْدُ } والثناء الصادر عن ألسنة جميع ما { فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَ } ما في { ٱلأَرْضِ } من المظاهر التي لمع عليها برق الوجود، وانبسطت أظلال شمس الذات وأضواؤها { وَ } لا سيما { عَشِيّاً } إذ هو وقت مصون عن الكثرة { وَحِينَ تُظْهِرُونَ } [الروم: 18] أيضاً؛ إذ فيها يحصل الفراغ عن أمور المعاش غالباً.
وكيف لا يتوجهون نحو الحق، ولا يديمون الميل إلأيه في أوقات حياتهم؛ إذ هو سبحانه بمقتضى لطفه وجماله { يُخْرِجُ } ويظهر بكمال قدرته { ٱلْحَيَّ } أي: ذا الحس والحركة، والإرادة التي هي أنواع الحيوانات { مِنَ ٱلْمَيِّتِ } الذي هو النطفة الجامدة { وَ } كذا { يُخْرِجُ } ويظهر بمقتضى قهره وجلاله { ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ } يعني: يعقبه الموت بالحياة، والحياة بالموت { وَ } من كمال قدرته { يُحْي ٱلأَرْضَ } بأنواع النضارة والبهاء { بَعْدَ مَوْتِهَا } أي: يبسها وجمودها { وَكَذَلِكَ } أي: مثل إعادة الحياة النضارة للأرض وقت الربيع { تُخْرَجُونَ } [الروم: 19] من قبوركم أيها المنكرون للبعث والحشر وإعادة المعدوم.
{ وَمِنْ آيَاتِهِ } الدالة على كمال قدرته على الإعادة والإبداء على السواء: { أَنْ } أي: إنه { خَلَقَكُمْ } وقدر جسمكم وصوركم أولاً { مِّن تُرَابٍ } يابس، ثمَّ بلدكم أطواراً وأدواراً؛ لتكميلكم وتشويقكم إمداداً و أدواراً إلى أن صوركم في أحسن صورة، وعدلكم في أقوم تعديل { ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ } أي: بعدما كمَّل صورتكم، وتمم تمثالكم وشكلكم، واستوى بشريتكم فاجأتم { تَنتَشِرُونَ } [الروم: 20] في الأرض على سبيل التناسل والتوالد، ومن قدر على إبدائكم وإبداعكم على الوجه المذكور قدر على حشركم وإعادتكم، بل هو أسهل من الإبداء.
{ وَ } أيضاً { مِنْ آيَاتِهِ } الدالة على كمال قدرته: { أَنْ خَلَقَ } وقدر { لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ } أي: من جنسكم وبني نوعكم { أَزْوَاجاً } نساءً؛ حتى تؤانسوا بهن وتستأنسوا بهن، بل إنما قدر لكم أزواجاً { لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا } وتتوطنوا معها توطناً خاصاً، وتألفاً تاماً إلى حيث يفضي إلى التوالد والتناسل { وَ } بهذه الحكمة البديعة { جَعَلَ بَيْنَكُم } وبينهن { مَّوَدَّةً } خاصة خالصة، منبعثة عن محض الحكمة الإلهية بحيث لا يكتنه لميتها وكيفيتها أصلاً.
{ وَ } من كمال قدرته ومتانة حكمته: جعل من امتزاج النطفة النازلة منكم ومنهن، الناشئة من المودة المذكورة، والمحبة المقررة بينكم { رَحْمَةً } ولداً مثلكم، ومحيياً لكم اسمكم ورسمكم { إِنَّ فِي ذَلِكَ } الخلق والإيجاد، والتكميل والتمكن، والتقدير والانبعاث، والانزعاج وأنواع التدبيرات الواقعة فيها، والحكم العجيبة المحيرة لأرباب الفطنة والذكاء { لآيَاتٍ } عظام ودلائل جسام { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الروم: 12] في آثار صنائع الحكيم القدير، والعليم الخبير البصير.