خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٢٣
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ
٢٤
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٢٥
لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ
٢٦
وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٢٧
مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
٢٨
-لقمان

تفسير الجيلاني

{ وَمَن كَفَرَ } وأعرض عن التشبث بحبل توفيقه، وانصرف عن الاستمساك بدلائل توحيده وشواهد استقلاله في آثاره { فَلاَ يَحْزُنكَ } يا أكمل الرسل { كُفْرُهُ } وإعراضه عنا، وعن مقتضى ألوهيتنا وربوبيتنا؛ إذ { إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } ومصيرهم، كما أن منا مبدأهم ومشأهم { فَنُنَبِّئُهُم } ونخبرهم، ونفصل عليهم { بِمَا عَمِلُوۤاْ } بعدما رجعوا إلينا، ونجازيهم على مقتضاها بلا فوت شيء مما صدر عنهم، وكيف لا يجازون بأعمالهم، ولا يحاسبون عليها { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع على جميع ما ظهر وبطن من ذرائر الأكوان { عَلِيمٌ } محيط حضرة علمه { بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } [لقمان: 23] وخفيات الأمور وإن دق ولطف، ولا يعزب عنه حيطة علمه شيء؟!.
قل لهم يا أكمل الرسل نيابةً عنا: لا يغتروا بإمهالنا وتمتعينا إياهم، وعدم التفاتنا نحوهم، وعدم انتقامنا عنهم؛ إذ { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً } أي: زماناً قليلاً تسجيلاً للعذاب عليهم، وتغريراً { ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ } بعد بطشنا إياهم { إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان: 24] لا عذاب أغلظ منه وأشد؛ لغلظ غشاوتهم وقساوتهم.
{ وَ } كيف لا نأخذ أولئك المكابرين المعاندين { لَئِن سَأَلْتَهُمْ } سؤال اختبار وإلزام: { مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ } وأوجد العلويات، وما فيها من الكواكب والبروج وأنواع الفجاج { وَٱلأَرْضَ } ومن عليها، وما عليها مما لا يُعد ولا يُحصى؟ { لَيَقُولُنَّ } في الجواب مضطرين حاصرين: { ٱللَّهُ } إذ لا يسع لهم إسناد خلقهما وإيجادهما إلى غيره سبحانه؛ لظهور الدلائل والشواهد المانعة من الاستناد إلى غيره سبحانه { قُلِ } يا أكمل الرسل بعدما اعترفوا بأن الموجد للعلويات والسلفيات هو الله سبحانه بالأصالة والاستقلال: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } حيث اعترفتم بتوحيد الله مع أنكم اعتقدتم خلافه، فيلزمهم لقولهم هذا التوحيد الحق { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [لقمان: 25] لزومه، ولا يفهمون استلزامه؛ لذلك ينكرون له، ويشركون معه غيره عناداً واستكباراً، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وكيف لا يعلمون ويفهمون مع أنه { لِلَّهِ } الواحد الأحد، المستحق للألوهية والربوبية، وفي قبضة قدرته وتحت تصرفه جميع { مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: العلويات والسلفيات، والممتزجات سواء علموا وحدته واستقلاقه في ملكه او لم يعلموا، أو اعتقدوا بتوحيده أو لم يعتقدوا؛ إذ لا يرجع له سبحانه نفع من اعتقادهم، وضر من عدمه، بل نفع اعتقادهم وإيمانهم إنما يرجع إليهم، وضر كفرهم وشركهم أيضاً كذلك؛ إذ هو سبحانه منزه عنهما جميعاً { إِنَّ ٱللَّهَ } المستغني عن جميع ما ظهر وبطن { هُوَ ٱلْغَنِيُّ } المقصور على الغنى الذاتي { ٱلْحَمِيدُ } [لقمان: 26] بمقتضى أوصافه الذاتية، وأسمئه الحسنى التي بها ظهر ما ظهر وما بطن سواء نطقت بحمده ألسنة مظاهره وأظلاله أو لم تنطق؛ إذ هو في ذاته متعالٍ عن النقص والاستكمال، واستجلاب النفع والإجلال مطلقاً.
ثمَّ لمَّا أمر اليهود وفد قريش بأن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى:
{ وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 85] كيف قال سبحانه هذا مع أنَّا قد أُنزل إلينا التوراة، وفيها علم كل شيء ظاهراً وباطناً؟! ردَّ الله عليهم حصرهم علم الحق بالتوراة، بل بجميع الكتب والصحف المنزلة على عموم الرسل وقاطبة الأنبياء؛ إذ كل ما دخل في حيطة الإنزال والإتيان متناهٍ، وحضرة علمه سبحانه في نفسه غير متناهٍ، ولا نسبة بين المتناه وغير المتناه، بل علمه سبحانه بالنسبة إلى معلوم ومقدور واحد باعتبار شئونه وتطوراته غير متناه، فكيف بعموم المعلوما والمقدروات؟!.
فقال سبحانه على مقتضى استعداد من على الأرض وقابليتهم وقدر عقولهم، مبيناً عن عدم نهاية حضرة علمه منها لها: { وَلَوْ أَنَّ } جميع { مَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ } أي: كل ما لها ساق من هذا الجنس { أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ } أي: المحيط الذي هو كرة الماء الكائن حول الأرض { يَمُدُّهُ } أي: يصير مداداً لها وحبراً لثبتها ومدها، بل يفرض أيضاً { مِن بَعْدِهِ } أي: بعد نفاذ البحر المحيط { سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } مثلاً محيطات كذلك تشيعه وتمد مده، فكتب بهذه الأقلام والمداد على الدوام كلمات الله العلي العلام { مَّا نَفِدَتْ } وتمت { كَلِمَاتُ ٱللَّهِ } وتنفد المدد والأقلام المذكورة، بل إن فرض أمثالها وأضعافها وآلافها؛ إذ الأمور الغير متناهية لا تقدر بمقدار المتناه، ولا يكال بمكيال مقدر، وكيف يكال ويقدر علمه { إِنَّ ٱللَّهَ } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { عَزِيزٌ } غالب قادر على كل ما جرى في حضرة علمه، مع أنه لا نهاية لمعلوماته { حَكِيمٌ } [لقمان: 27] لا ينتهي حكمته وقدرته بالنسبة إلى مقدور دون مقدور، بل له التصرف في كل واحدة من مقدوراته ومراداته إلى ما لايتناهى أزلاً وأبداً؛ إذ لا يكتنه طور علمه وخبرته، وحكمته وقدرته مطلقاً؟!.
ومن جملة مقدوراته الصادرة منه سبحانه على مقضتى حكمته إرادة واختياراً: خلقكم وإيجادكم أولاً على سبيل الإبداع بمقتضى اللطف والجمال، وإعدامكم ثانياً على مقتضى القهر والجلال، وإعادتكم وبعثكم ثالثاً إظهاراً للحكم المودعة فيه هوياتكم وأشباحكم، والمصلحة المندرجة في إيجادكم وإظهاركم.
والمحجوبون المقيدون بسلاسل الأزمان والساعات يتوهمون بين الأطوار الثلاثة والنشأة المتعاقبة أمداً بعيداً وأزمنة متطاولة، وهي عند الله بعدما تعلق إرادته ونفذ قضاؤه، وصدر عنه الأمر بقوله: كن، فيكون الكل بلا تراخٍ ومهلةٍ في أقصر مدة وآن؛ إذ لا يشغله شأن عن شأن، ولا يقدر أفعاله زمان ومكان؛ لذلك قال سبحانه: { مَّا خَلْقُكُمْ } وإظهاركم في فضاء الوجود في النشأة الأولى { وَلاَ بَعْثُكُمْ } وحشركم في النشأة الأخرى بعدما انقرضتم عن الأولى { إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني: إيجادكم جملة أولاً، وبعثكم ثانياً كذلك في جنب قدرتنا وإرادتنا كإيجاد نفس واحدة بلا تفاوت؛ إذ متى صدر عنا قولنا: كن، إشارةً منَّا إلى خلقكم وبعثكم جملة، فيكون الكل في الحال ككون نفس واحدة { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع لسرائر ما ظهر وبطن { سَمِيعٌ } لعموم ما صدر عن ألسنة استعداداتهم وقابلياتهم { بَصِيرٌ } [لقمان: 28] بما لاح عليهم من إشراق نور الوجود.