{ وَ } اذكر لهم يا أكمل الرسل { إِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ } أي: من منافقي المدينة، والذين في قلوبهم مرض وضعف اعتقاد ويقين من المؤمنين: { يٰأَهْلَ يَثْرِبَ } أي: أصحاب المدينة { لاَ مُقَامَ لَكُمْ } أي: لا يحسن إقامتكم الآن ومقاومتكم في مقابلة هذه الأحزاب؛ أذ هم ذوو عَدد وعُدد كثيرة، وأنتم شرذمة قليلون بالنسبة إليهم { فَٱرْجِعُواْ } عن دين محمد، وتشتتوا عن حوله؛ حى تسلموا من يد الأعادي { وَ } بعدما سمعوا قول أولئك المنافقين آمرين بالرجوع والارتداد صاروا مترددين متزلزلين في دينهم؛ حتى { يَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ } معتذرين معللين للرجوع والذب عن حول النبي: { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } غير حصينة، خالية عن المحافظ، فأذن لنا حتى نرجع إلى بيوتنا ونستحفظها { وَ } الحال أن بيوتهم { مَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } بل هي حصينة محفوظة لا خلل فيها، بل { إِن يُرِيدُونَ } أي: ما يريدون ويقصدون من هذا القول { إِلاَّ فِرَاراً } [الأحزاب: 13] عن الزحف، وإعراضاً عن الدين.
{ وَ } من كما ضعفهم في الدين، وعدم تثبتهم ورسوخهم ي الاعتقاد واليقين: { لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا } وحصنت جميع جوانبها، بحيث لا يمكن الظفر علكيها إلا لهؤلاء الأحزاب ولا لغيرهم من عساكر الأعداء { ثُمَّ } ب عدما تحصنت عليهم بيوتهم كذلك صاروا آمنين من ظفر العدو مطلقاً { سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ } أي: الارتداد عن الإيمان والإسلامن والنصر على المؤمنين { لآتَوْهَا } وأعطوها ألبتة هؤلاء الجهلة الضعفة، المتماثلين إلى الكفر ومؤاخاة الكفرة عن صميم فؤادهم، ولجاءوا بالردة عن الدين والقتال مع المسلمين على الفور { وَمَا تَلَبَّثُواْ } وتوقفوا { بِهَآ } أي: بإعطاء الفتنة والردة بعدما سئلوا عنها { إِلاَّ يَسِيراً } [الأحزاب: 14] أي: آناً واحداً إلاَّ زماناً مقدرا ما يفهمون سؤال السائل واقتراحه.
{ وَ } كيف لا يعطونها وهم { لَقَدْ كَانُواْ } أي: بنو حارثة وبنو سلمة { عَاهَدُواْ ٱللَّهَ } أي: عهدوا العهد الوثيق مع الله { مِن قَبْلُ } أي: قبل حفر الخندق، وذلك في يوم أحد حين أرادوا أن يُفشلوا عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم أو تخلفوا عنه يوم بدر، فلما رأوا ما أعطى الأحديون والبدريون من الكرامة العظيمة آجلاً وعاجلاً قالوا معاهدين: لئن أشهدنا الله قتالاً فالنقاتلن، وحلفوا { لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ } أصلآً، فالآن قد تذبذبوا وتضعفوا، وكادوا أن يولوا { وَ } لم يعلموا أنه { كَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ } الذين عاهدوا معه سبحانه من قبل { مَسْئُولاً } [الأحزاب: 15] عنه وعن نقضه ووفائه، وهم مجزيون بمقتضى ما ظهر منهم من النقض والوفاء؟!.
{ قُل } لهم يا أكمل الرسل بعدما تحقق عندك قصد فرارهم وذبهم عنك: { لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ } أبداً، بل { إِن فَرَرْتُمْ } من ضعف يقينكم، ووهو اعتقادكم { مِّنَ ٱلْمَوْتِ } حتف الأنف، كما يفر الناس من الطاعون والوباء والزلزلة وغير ذلك { أَوِ ٱلْقَتْلِ } في يم الوغاء { وَإِذاً } أي: بعدما تفرون حينئذٍ { لاَّ تُمَتَّعُونَ } تمتيعاً كثيراً مؤبداً، بل ما تمتعون { إِلاَّ قَلِيلاً } [الأحزاب: 16] في زمان قليل؛ إذ لكل منكم أجل، ولكل أجل قضاء وانقضاء، ولا دوام إلا لمن هو متعال عن الأجل والقضاء والانقضاء، منزه عنه الابتداء والانتهاء، وعن الإعادة والإبداء، مقدس عن تعديد الأزمنة وتحديد الأمكنة مطلقاً.
وإن جادلوا معك يا أكمل الرسل، وعاندوا بالفرار والتحصن ننجي من العدو وإهلاكه بحيث لا تبقى لهم يد علينا { قُلْ } لهم يا أكمل الرسل على سبيل التبكيت والإلزام: { مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ } ويحفظكم ويحرزكم { مِّنَ } قهر { ٱللَّهِ } وعذابه { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً } أي: إصابة بلاء وشدة ومحنة { أَوْ } من ذا الذي يمنع نعكم لطفه سبحانه إن { أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } عطفاً ومحبةً؟! { وَ } بالجملة: { لاَ يَجِدُونَ } أولئك المتذبذبون المتضعفون { لَهُمْ } أي: لأنفسهم المراقب عليهم في جميع أحوالهم { مِّن دُونِ ٱللَّهِ } يولي أمور تحصنهم وتحفظهم { وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } [الأحزاب: 17] ينصرهم على أعدائهم، وبالجملة: جميع أعمال العباد وأفعالهم مفوضة إلى الله أولاً وبالذات، مقهورة تحت قدرته الكاملة، فلهم أن يفوضوها إليه؛ ليسلموا من غوائل العناد والإصرار.