خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً
٢١
وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً
٢٢
مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً
٢٣
لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
٢٤
-الأحزاب

تفسير الجيلاني

ثمَّ قال سبحانه تحريكاً لحمية المؤمنين: { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ } أيها المؤمنون المخلصون، الطالبون التخلق بأخلاق الله، الهاربون عن أخلاق أعدائه { فِي رَسُولِ ٱللَّهِ } المبعوث؛ لإرشادكم وإهدائكم { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي: خصلة حميدة بديعة يجب التأسي والاتصاف بها { لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ } أي: لقاءه ومطالعة وجهه الكريم { وَ } يرجو أيضاً { ٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ } الموعود يه هذه الكرامة العظيمة، وبواسطة هذا الرجاء وغلبة هذه الأمنية العظيمة في خاطره { وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً } [الأحزاب: 21] في عموم الأعيان والأحياز؛ لتلذذه بذكره سبحانه؛ حتى ينال ما وعد من الفوز بشرف اللقاء، ومن كان كذلك، وهمه ذلك فهو مؤتسٍ بالرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الخصلة المحمودة، والديدنة المسعودة المقبولة عند الله التي هي الرضا بجميع ما جرى عليه من القضاء.
ومن علامات الثبات على العزيمة، وتحمل الشدائد، ومقاساة الأحزان، وارتكاب المتاعب والمشاق في إعلاء دين الله وكلمة توحيده، والتوكل نحوه في الضراء والسراء، وكظم الغيظ عند هجوم الغضب، والعفو عند القدرة وغير ذلك من الخصائل الحميدة والأخلاق الجميلة المرضية { وَ } من شدة تأثير هذه الخصائل الجميلة في قلوب المؤمنين { لَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ } المخلصون { ٱلأَحْزَابَ } حواليهم { قَالُواْ } متذكرين لوعد الله، متثبتين على دينه، متشمرين لإعلاء كلمة توحيده: { هَـٰذَا } الوقت وقت إنجاز { مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } من النصر والغلبة على الأعداء، والفوز بأنواع الغنائم والعطاء عاجلاً وآجلاً بقوله سبحانه:
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم... } [البقرة: 214] وقوله عليه السلام: "سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم العاقبة لكم عليهم" ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنهم سائرون إليكم بعد تسع أو عشر" .
{ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } في جميع ما جاءنا من قِبَل الله ورسوله من الوعد والوعيد، وأنواع النعم والعطاء، والمحن والبلاء { وَ } من كمال تثبتهم وتفويضهم على الله، وتوكلهم نحوه: { مَا زَادَهُمْ } إلمام الخطوب وحدوث الوقائع، ونزول المحن والبليات { إِلاَّ إِيمَاناً } بالله وكمال قدرته وعلمه وإرادته، وسائر صفات الذاتية والفعلية { وَتَسْلِيماً } [الأحزاب: 22] لعموم ما جرى عليهم من صولجان قضائه بلا تلعثم وتذبذب في إيمانهم واعتقادهم.
ومن غاية خلوصهم في إيمانهم وتسليمهم { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } المشمرين لإعلاء دين الله ونصرة رسوله على العزيمة الكاملة الصادقة { رِجَالٌ } أبطال كاملون في الإخلاص والشجاعة والوفاء { صَدَقُواْ } في جميع { مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } أي: نجزوا مواثيقهم، ووفوا عموم عهودهم التي عهدوا مع الله ورسوله من الثبات على العزيمة، والتصبر في المعركة، وعدم التزلزل من المحل الذي عين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في صف القتلا، ولم يجنبوا ولم يضعفوا أصلاً.
{ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } ووفى نذره بأن قاتل مع أعداء الله على مقتضى ما عاهد ونذر حتى استشهد ووصل إلى مرامه ومبتغاه، كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر - رضون الله عليهم أجمعين - { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } الشهادة، كعثمان وطلحة فقاتلوا مع الأعداء وقتلوهم، ونجواو منهم سالمين منتظرين إلى قتال آخر؛ ليستشهدوا فيه { وَ } من كمال تثبتهم وتمكنهم في تعيينهم، وإخلاصهم في إيمانهم: { مَا بَدَّلُواْ } من النذور والعهود التي أتوا بها عازمين عليها جازمين، ولا أضمروا في أنفسهم، كالمنافقين { تَبْدِيلاً } [الأحزاب: 23] شيئاً حقيراً من التبدل والنقص، فكيف بالعظيم الكثير؟! بل زادوها وأكدوها.
كل ذلك { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ } المجازي لأعمال عباده { ٱلصَّادِقِينَ } المخلصين منهم { بِصِدْقِهِمْ } أي: جزاءً حسناً يناسب صدقهم وإخلاصهم، أو بواسطة صدقهم وإخلاصهم { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ } منهم، وليجازيهم بمقتضى كفرهم ونفاقهم تعذيباً مخلداً مؤبداً { إِن شَآءَ } وتعلق إرادته ومشيئته بتخليدهم في العذاب { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } ويوفقهم على الإيمان والإخلاص، إن علق إرادته بإيمانهم وإنقاذهم من العذاب الأبدي { إِنَّ ٱللَّهَ } القادر المقتدر على جميع ما أحاط تحت قدرته { كَانَ غَفُوراً } ساتراً لذنوب من وفقهم على التوبة من عصاة عباده { رَّحِيماً } [الأحزاب: 24] يقبل توبتهم، ويرحم عليهم بعدما أخلصوا فيها.