خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً
٧٢
لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٧٣
-الأحزاب

تفسير الجيلاني

ثم لما أراد سبحانه بمقتضى تجلياته الحبيبة اللطيفة أن يطالع ذاته الكاملة المتصفة بصفات الكمال في مرآة مجلوة تصير نائبة عنها، خليفة لها، يتراءى فيها جميع أوصافه وأسمائه الذاتية على ما أشار إليه الحديث القدسي، عرض سبحانه أمانة الخلافة والنيابة على استعدادات المظاهر وقابليات المصنوعات فامتنع الكل عن حملها، وأبى عن قبولها كما قال سبحانه: { إِنَّا } بمقتضى تجلياتنا الجمالية المنبعثة عن الشئون الحِبِّية والتطورات اللطيفة { عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ } أي: أمانة الخلافة والنيابة، وأردنا أن نحمّل أعباء العبودية المشتملة على التخلق بالأخلاق الإلهية والتكليفات الشاقة، القالعة للأوصاف البهيمية والأدناس الإسكانية الراسخة في القوى الطبيعية؛ لتحصل التصفية والتزكية عن أكدار الهيولي المانعة عن الوصول إلى الملأ الأعلى { عَلَى } استعدادات { ٱلسَّمَٰوَٰتِ } العلا { وَ } قابليات { ٱلأَرْضِ } السفلى { وَٱلْجِبَالِ } الأسنى، وعلى استعدادات ما بينهما من المركبات العظمى والمؤلفات الكبرى { فَأبَيْنَ } وامتنعن؛ أي: كل منهم { أَن يَحْمِلْنَهَا } إذ ما أودع سبحانه في استعداداتهم وقابلياتهم ما يسع لحمل هذه الأمانة العظيمة والكرامة الكريمة.
{ وَ } لذلك { أَشْفَقْنَ مِنْهَا } أي: خفن وخشين من حملها ألاَّ يفين حقها { وَ } بعدما امتنعن وخفن جميعاً عن حملها { حَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } المجبول على صورة الرحمن، المنتخب من بين الأكوان بالقوة القدسية المودعة فيه، المقتضية لحملها { إِنَّهُ } حينئذ من كمال شوقه ووفور تحننه وذوقه { كَانَ ظَلُوماً } على نفسه بارتكاب هذه التحميلات البليغة والتكليفات الشديدة الثقيلة من ققطع المألوفات الطبيعية، والمشتهيات البهيمية واللذات الحسية { جَهُولاً } [الأحزاب: 72] ذهولاً عن مقتضيات ناسوته وملائماتها بحسب القوى البشرية لغلبة القوى الروحانية الجالبة للسعادة الأزلية الأبدية على القوى الجسمانية المستتبعة للشقاوة السرمدية، فأين هذامن ذلك؟!
رزقنا الله المنعم المفضل ألاَّ نظلم على نفوسنا، ونمنعها عن مقتضياتها وأمانيها، بمنِّه وجوده.
ومن جملة الأمانات المحمولة على الإنسان: حفظ السرائر ورعاية الآداب والحقوق الجارية بين ذوي الألباب من الرجال والنساء، وإنما حمّلها سبحانه عليهم ابتلاءً لهم واختباراً { لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ } الحكيم المتقن في أفعاله { ٱلْمُنَافِقِينَ } المخفين، الساترين كفرهم وشركهم والخيانات الصادرة عنهم لمصلحة دنيوية { وَٱلْمُنَافِقَاتِ } منهم كذلك { وَٱلْمُشْرِكِينَ } المصرين المجاهرين بكفرهم وشركهم وخياناتهم { وَٱلْمُشْرِكَاتِ } أيضاً كذلك تعذيباً شديداً؛ لعدم وفائهن على الأمانات المحمولة عليهم { وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } أي: يوفقهم على التوبة والإنابة بعدما صدر عنهم شيء من الخيانة وعدم الوفاء بالأماننة التي ائتمنوا بها من حقوق الله وحقوق العباد، وبعدما تابوا وأنابوا على وجه الإخلاص والندامة، فقد أدوا حق الأمانة ووفوا بها على وجهها { وَكَانَ ٱللَّهُ } المطلع لإخلاصهم { غَفُوراً } لما صدر عنهم من الخيانة قبل التوبة { رَّحِيماً } [الأحزاب: 73] يقبل توبتهم ويرحم عليهم بعدما تابوا وأخلصوا.
رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين.
خاتمة السورة
عليك أيها الطالب لمرتبة الخلافة والنيابة، القاصد لحمل الأمانة الإلهية، المتحمل لأعباء العبودية بالقوة الذاتية القدسية والقابلية الفطرية، يسَّر الله عليك الأداء والوفاء بجميع حققه وعهوده وأماناته، وحقوق جميع عباده ورعاية لوازم الإخاء المصاحبة معهمه، وأطاقك سبحانه على حمل التكاليف من المفترضات والنوافل المسنونات، وأعانك على التخلق بأخلاقه، أن تتوجه بوجه قلبك إلى ربك وتتخذه وكيلاً في أمرك الذي هو التخلق بأخلاقه سبحانه؛ ليتيسر لك مرتبة الخلافة ويتم عليك أمر النيابة.
فلك أن تعرف أولاً شياطينك التي هي أمانيك النفسانية، المتولدة من القوى البهيمية، المانعة عن الوصول إلى الدرجات العلية، وتفصلها على وجه لا يشذ عنك منها شيء، وتلازم على زجرها ومنعها إلى أن تصير الكل منزجرة مقهورة للقوى الروحانية، بحيث لا يبقى لها قوة مقاومة ومقابلة مع الروحانيات أصلاً.
ثم لك أن تنفي وتفني أوصافك وأخلاقك في أوصاف الحق وأخلاقه إلى أن تضمحل وتتلاشى أوصافك وأخلاقك في صافته وأخلاقه سبحانه، ويرتفع اسمك ورسمك عن البين، ويتصفى العين من الغين، والشأن عن الشين، ولم يبق البون والبين، واتصل العين بالعين، وحينئذ صرت ما صرت، وفزت بما فزت، وتمكنت في مقعهد صدق الخلافة والنيابة عند مليك مقتدر.
رزقنا الله التقرر والتمكن في مقعد الصدق بلا تلوين وتبديل.