خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
١٩
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٢٠
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ
٢١
قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ
٢٢
وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ
٢٣
-سبأ

تفسير الجيلاني

وبعد توجه الفقراء إلى ديارهم، وازدحموا لكمال الخصب والرفاهية والمعيشة الوسيعة وسهولة الطريق { فَقَالُواْ } متشكين إلى الله من مزاحمة الفقراء وإلمامهم عليهم، كافرين لنعمة التوسعة والسهولة: { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ } منازل { أَسْفَارِنَا } حتى نحتاج إلى حمل الزاد وشد الرواحل؛ ليشق الأمر على الفقراء، فيتنحوا عنا ولم يزدحموا علينا { وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } بطلب هذا التعب، فأجاب الله دعاءهم، وخرب القرى التي بينهم وبين الشام، وانصرف الفقراء عنهم، وانقطع دعاؤهم لهم، فاشتد الأمر عليهم، وتشتتوا في البلاد، ولم يبق عليهم شيء من التوسعة والرفاهية، بل صاروا متفرقين مشتتين { فَجَعَلْنَاهُمْ } أي: قصة أمنهم وفاهيتهم وجمعيتهم، بعدما عكسنا الأمر عليهم { أَحَادِيثَ } لمن بعدهم، يتحدثون بينهم، متعجبين قائلين على سبيل التحسر في أمثالهم: "تفرق أيدي سبأ".
{ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي: فرقناهم في البلاد تفريقاً كلياً إلى حيث لحق غسان منهم بـ"الشامِ"، وأنمار بـ"يثرب" وجذام بـ"تهامة" والأزد بـ"عمان" { إِنَّ فِي ذَلِكَ } التبديل والتشتيت، وأنواع المحن والنقم بعد النعم { لآيَاتٍ } دلائل واضحات على قدرة القدير الحكيم العليم، المقتدر على الإنعام والانتقام { لِّكُلِّ صَبَّارٍ } على المتاعب والمشاق الواردة عليه بمقتضى ما ثبت له في لوح القضاء، ومضى على الرضا بمقتضيات الحكيم العليم { شَكُورٍ } [سبأ: 19] لنعم الله الفائضة عليه، مواظب أداء حقوقه.
ثم قال سبحانه مقسماً: { وَ } الله { لَقَدْ صَدَّقَ } - بالتشديد والتخفيف - { عَلَيْهِمْ } أي: على هؤلاء الهالكين في تيه الخسران والكفران { إِبْلِيسُ } العدو لهم، المصر المستمر على عداوتهم من مبدأ فطرتهم { ظَنَّهُ } الذي ظن بهم حين قال لأبيهم آدم:
{ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 62] وقوله: { لاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [الأعراف: 17] وقوله: { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } [النساء: 119] إلى غير ذلك، وبعدما أضلهم عن طريق الشكر والإيمان { فَٱتَّبَعُوهُ } كفروا النعم والمنعم جميعاً { إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [سبا: 20] الموقنين بتوحيد الله، المصدقين لرسله، المتذكرين لعداوته المستمرة، فانصرفوا عنه وعن إضلاله، فبقوا سالمين عن غوائله.
{ وَ } العجب كل العجب أنهم اتبعوا له وقبلوا إغواءه وإغراءه وتغريره، مع أنه { مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ } حجة قاهرة غالبة ملجئة لهم إلى متابعته وقبول وسوسته من قِبله، بل من قِبلنا أيضاً، وما ابتلينا وإغرينا هؤلاء البغاء بمتابعته - لعنه الله - { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } ونميز ونظهر التفرقة بين { مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ } وبجميع المعتقدات التي أخبرها الله بها { مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا } أي: من النشأة الأخرى، والأمور الكائنة فيها { فِي شَكٍّ } تردد وارتياب، ولهذه التفرقة والتمييز، أتبعناهم إليه { وَ } لا تستبعد يا أكمل الرسل أمثال هذه الابتلاءات والاختبارات من الله؛ إذ { رَبُّكَ } الذي رباك على الهداية العامة { عَلَى كُلِّ شَيْءٍ } من مقدوراته ومراداته الكائنة والتي ستكون، والجارية على سرائر عباده وضمائرهم، والتي ستجري { حَفُيظٌ } [سبأ: 21] شهيد، لا يغيب عنه إيمان مؤمن، وكفر كافر، وشكر شاكر، وشك شاك، وإخلاص مخلص.
وبعدما أثبت المشركون المصرون على كفران نعم الله أمثال هؤلاء الغواة المذكورين آلهة سوى الله سبحانه، وسموهم شفعاء وعبدوا لهم مثل عبادته سبحانه { قُلِ } لهم يا أكمل الرسل إلزاماً وتبكيتاً: { ٱدْعُواْ } أيها الضالون المشركون الآلهة { ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ } وأثبتهم { مِّن دُونِ ٱللَّهِ } ليستجيبوا لكم في مهماتكم، ويستجلبوا لكم المنافع، ويدفعوا عنكم المضار، كما هو شأن الألوهية والربوبية، وكيف تدعونهم لأمثال هذه المهام مع أنهم { لاَ يَمْلِكُونَ } لأنفسهم { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } من الخير والشر والنفع والضر، لا { فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } لا استقلالاً؛ إذ هم ليسوا قابلين للألوهية { وَ } لا مشاركة؛ إذ { مَا لَهُمْ فِيهِمَا } أي: في خلقهما وإيجادهما { مِن شِرْكٍ } مشاركة مع الله في ألوهيتهم؛ لأنهم من جملة مخلوقاته، بل من أدناها، ولا شركة للمخلوق مع خالقه { وَ } لا مظاهرة، إذ { مَا لَهُ } سبحانه { مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ } [سبأ: 22] ولا من غيرهم أيضاً، معاون له في ألوهيته وربوبيته؛ إذ هو سبحانه منزه عن المعاونة والمظاهرة مطلقاً.
{ وَ } كذلك ليس لهم عنده سبحانه شفاعة مقبولة حتى يشفعوا لهم ويخلصوهم من عذاب الله بعدما نزل عليهم؛ إذ { لاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ } سبحانه من أحد من عباده { إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } بالشفاعة لغيره؛ لاتصافه بالكمال، أو بشفاعة الغير من الشرفاء له؛ لاستحقاقه بالكرامة وإن كان منغمساً بالرذالة، وبعدما وقعت الشفاعة وأذن بها من عنده سبحانه، ينتظر الشافعون المشفعون بعد وقوعها وجلين، خائفين مهابة من سطوة سلطنة جلاله سبحانه { حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ } وكشف الفزع، وأزيل الخوف والوجل { عَن قُلُوبِهِمْ } أي: قلوب الشافعين والمشفوعين { قَالُواْ } أي: بعضهم لبعض، أو المشفوعون للشافعين: { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } في جواب شفاعتكم، أيقبلها أم يردها؟ { قَالُواْ } أي: الشفعاء: القول { ٱلْحَقَّ } الثابت عنده، المرضي دونهن وهو سبحانه يقبل شفاعتنا في حقكم، وأزال عنكم عذابه { وَ } كيف لا يخافون من الله ولا يهابون - أي: الشفعاء - عن ساحة عز حضوره؛ إذ { هُوَ } سبحانه { ٱلْعَلِيُّ } ذاته وشأنه، المقصور المنحصر على العلو، لا أعلى إلا هو { ٱلْكَبِيرُ } [سبأ: 23] بحسب أوصافه وأسمائه؛ إذ الكبرياء رداءه، لا يسع لأحد أن يتردى به سواه.