خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ
٤٩
قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ
٥٠
وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ
٥١
وَقَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
٥٢
وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ مِن قَـبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
٥٣
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ
٥٤
-سبأ

تفسير الجيلاني

{ قُلْ } يا أكمل الرسل بعدما بينت لهم طريق الحق كلاماً ناشئاً عن محض الحكمة، خالياً عن وصمة الكذب مطلقاً: { جَآءَ ٱلْحَقُّ } الحقيق بالاتباع، وظهر الإسلام الجدير بالإطاعة والاستسلام، فلكم أن تغتنموا الفرصة وتنقادوا له مخلصين { وَ } نبههم ويا أكمل الرسل أيضاً أنه بعدما ظهر نور الإسلام، وعلا قدره، وارتفع شأنه { مَا يُبْدِىءُ } ويحدث { ٱلْبَاطِلُ } الذي زق واضمحل ظلمته بنور الإسلام، وغار مناره في مهاوي الجهل وأغوار الخذلان { وَ } صار إلى حيث { مَا يُعِيدُ } [سبأ: 49] أصلاً في حين من الأحيان.
سبحان من أظهر أنوار الإسلام ورفع أعلامه، وقمع الكفر وأخفض أصنامه.
ثم لما طعن المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعيَّروه بأن تركت دين آبائك واخترعت ديناً من تلقاء نفسك، فقد ضللت باختيارك هذا، بتركك ذاك عن منهج الرشاد، ورد الله سبحانه عليهم قولهم هذا وتعييرهم، آمراً لنبيه على وجه الامتنان: { قُلْ } لهم يا أكمل الرسل بعدما عيروك وطعنوا في شأنك ودينك: { إِن ضَلَلْتُ } وانحرفت عن سبيل السلامة وجادة الاستقامة { فَإِنَّمَآ أَضِلُّ } وأنحرف { عَلَىٰ نَفْسِي } وبمقتضى أهويتها ومشتهياتها، وشؤم لذاتها وشهواتها { وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ } إلى التوحيد والعرفان، ونلت إلى أسباب درجات الجنان { فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } أي: بسبب وحيه وإلهامه إليّ، وامتنانه عليّ بالهداية إلى أنواع الكرامات وأصناف اللذات الروحانية { إِنَّهُ } سبحانه { سَمِيعٌ قَرِيبٌ } [سبأ: 50] يسمع مناجاتي، ويقضي جميع حاجاتي على وجهها إن تعلق إرادته ومشيئته بها بعدما جرى وثبت في حضرة علمه، ومضى عليها قضاؤه في لوحه بحيث لا يفوته شيء.
{ وَ } من كمال قرب الله سبحانه لعباده { لَوْ تَرَىٰ } أيها الرائي وقت { إِذْ فَزِعُواْ } أي: الكفرة والمشركون وقت حلول الأجل ونزول العذاب عليهم في يوم الساعة، لرأيت أمراً فظيعاً { فَلاَ فَوْتَ } أي: حين لا فوت لهم عن الله، لا منهم ولا من أعمالهم و أحوالهم شيء { وَ } إن تحصنوا بالحصون الحصينة والقلاع المنيعة والبروج المشيدة، بل { أُخِذُواْ } حيثما كانوا { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } [سبأ: 51] من الله، ولو كانوا في قعر الأرض، أو قلل الجبال، أو في قلب الصخرة، أو فوق السماء، أو في أي مكان من الأماكن المخفية، وبالجملة: أُخذوا من مكان قريب بالنسبة إليه سبحانه؛ إذ هو سبحانه منزه عن الأمكنة، شهيد حاضر في جميعها، غير مغيب عنها.
{ وَ } بعدما اضطروا إلى الهلاك أو العذاب في يوم الجزاء { قَالُوۤاْ } بعدما انقرض وقت الإيمان ومضى أوانه: { آمَنَّا بِهِ } أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم { وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ } أي: من أين يتأتى ويحصل لهم تناول الإيمان وتلافيه { مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [سبا: 52] بمراحل عن الإيمان؛ إذ قد انقرض مدة التكليف والاختيار.
وحين كانوا قريبين، قادرين على تناوله وتعاطيه، لم يختاروه ولم يتصفوا بهن بل { وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ } صلى الله عليه وسلم وأنكروا عليه على كتابه ودينه { مِن قَـبْلُ } في النشأة الأولى، أو في زان الصحة؛ أي: قبل ما عاينوا بالعذاب والهلاك { وَ } هم قد كانوا في زمان الإيمان به صلى الله عليه وسلم وبكتابه { يَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ } أي: يرمونه ويرجمونه رجماً بالغيب، ويقولون في حقه على سبيل التخمين والحسبان عدواناً وظلماً: إنه كاهن، شاعر، مجنون، وكتابه أساطير الأولين، بلا كلام المجانين، مع أن أمثال هذه الخرافات بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم وعلى كتابه { مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [سبأ: 53] بمراحل عن شأنه العلي العظيم، وكتابه الجلي الكريم، وإيمانهم في حالة اضطرارهم أبعد عن محل القبول بمراحل أيضاً.
{ وَ } بعدما آيسوا عن قبول الإيمن وقت الاضطرار { حِيلَ } وحجب { بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } من الإيمان والنجاة المترتبة عليه، ففعل بهم حينئذ { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم } وأشباههم { مِّن قَبْلُ } من الكفرة المضاين الهالكين، الملتجئين إلى الإيمان وقت اضطرارهم وهجوم العذاب عليهم، كفرعون وقارون وغيرهما { إِنَّهُمْ } قد { كَانُواْ } أمثال هؤلاء الغواة المنهمكين { فِي شَكٍّ } أي: غفلة وتردد { مُّرِيبٍ } [سبأ: 54] موقع أصحابه في ريب عظيم، وكفر شديد، وإنكار غليظ.
أعاذنا الله وجميع عباده عن أمثاله بمنِّه وجوده.
خاتمة السورة
عليك أيها السالك، المتدرج في درجات اليقين من العلم إلى العين إلى الحق - وفقك الله إلى أعلى مطالبك، وأعانك في إنجائه - أن تتمكن في مقعد الصدق الذي هو مرتبة الرضا، معرضاً عن الشك والتردد في مقتضيات القضاء، ومبرمات الأحكام المثبتة في حضرة العلم الإلهي، وأن تتوجه نحوه سبحانه في جميع حالاتك بذيل كرم نبيه المؤيد من عنده الذي أرشدك إلى توحيده، مسترشداً من آيات كتاب الله المنزنل على رسوله، المبين لسلوك طريق التوحيد واليقين، وأحاديث النبي الموضح لمغلقات الكتاب، المشير إلى رموزه وإشاراته.
فلك في كل الأحوال التبتل إلى الله، والتوكل نحوه، والتفويض إليه، فاتخذه سبحانه وكيلك في جميع حوائجك، وحسيبك في جميع مهماتك، يكفيك معيناً، وكيف عنك شرور أعدائك مطلقاً.
وإياك إياك أن تختلط مع أصحاب الغفلة وأرباب الثروة، المفتخرين بما عندهم من المال الجاه، والنسب العلي والحسب الذي يباهي صاحبه ويتفوق على أقرانه ويطلب الرئاسة والسيادة بسببه.
وإن أردت أن تجلس مع بني نوعك وتصاحب معهم، فاختر منهم من انقطع عن الدنيا وأمنايها، وتزهد عنها وما فيها، سوى سد جوعة وستر عورة وكنِّ يحفظه عن البرد والحر، وصاحب معه مصاحبة الحائر التائه في بيداء، لا يدري أين طرفاها، متفكرين متدبرين للخروج منها، والنجاة عن أهوالها وأغوالها.
فلك أن تتذكر في عموم أوقاتك قوله صلى الله عليه وسلم، واجعله نصب عينيك في جميع حالاتك وهو:
"كن في الدنيا كأنك غريب أو كعابر سبيل، وعد نفسك من أصحاب القبور" .
جعلنا الله ممن امتثل به، وتذكر وعمل بمقتضاه، ووجد في نفسه حلاوة معناه بفضله ولطفه.