خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٢
يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ
١٣
إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
١٤
-فاطر

تفسير الجيلاني

ثم مثَّل سبحانه كلا الفريقين المؤمن والكافر بالبحرين العذب والمالح، فقال: { وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ } في النفع والفائدة الحاصلة منهما؛ إذ { هَـٰذَا } أي: المؤمن المصدق لبحر الإيمان والعرفان، المترشح من بحر الوحدة الذاتية { عَذْبٌ } حلو في كمال الحلاوة { فُرَاتٌ } يكسر غليل أكباد المتعطشين في سراب الدنيا ببرد اليقين { سَآئِغٌ شَرَابُهُ } أي: سهل انحداره للمجبولين على فطرة التوحيد.
{ وَهَـٰذَا } أي: الكافر المتوغل في بحر الغفلة { مِلْحٌ } لا مصلح يصلح من يذوق منه، بل { أُجَاجٌ } مر مفسد للمزاج، من ذاق منه هلك هلاكاً أبدياً بحيث لا نجاة له، بل { وَ } البحر الأجاج له نفع، ولا نفع للكفر والضلال أصلاً؛ إذ { مِن كُلٍّ } من البحرين { تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } مثل السمك وغيرها { وَتَسْتَخْرِجُونَ } منهما { حِلْيَةً } أي: أنواعاً من التزيينات اللاتي { تَلْبَسُونَهَا } وإنما أباح لكم سبحانه أيها المكلفون منافع بره وبحره { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [فاطر: 12] أي: رجاء أن تشكروا نعمه، وتزيدوا على أنفسكم مزيد كرمه.
ومن كمال فضل الله عليكم ورحمته أنه { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ } أي: يدخل ظلمته { فِي } في { ٱلنَّهَارِ } فيطول أجزاء النهار بإيلاج أجزاء الليل في الصيف؛ تتميماً لمصالح معيش عباده { وَ } كذا في الشتاء { يُولِجُ ٱلنَّهَارَ } أي: أجزاء منه { فِي ٱلْلَّيْلِ } فيطوله بأجزائه؛ تسكيناً للقوى النامية، وتمكيناً لها؛ ليجددها للخدمة المفوضة إليها { وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } أيضاً؛ تتميماً لمصالح عباده إلى حيث { كُلٌّ } منهما { يَجْرِي } ويدور بإذن الله وإلهامه { لأَجَلٍ مُّسَمًّى } هي من مبدأ دوره إلى منتهاه، أو إلى انقراض نشأة الدنيا { ذَلِكُمُ } المتصرف بالاستقلال والاختيار، المدبر بكمال العلم والخبرة ووفور الحكمة والدرية، هو { ٱللَّهُ رَبُّكُمْ } الذي أظهركم من كتم العدم، ورباكم بأنواع النعم والكرم، كيف لا يربيكم سبحانه بعدما أبدعكم؛ إذ لا متصرف في الكائنات إلا هو { لَهُ ٱلْمُلْكُ } لا مالك له سواه ولا مدبر غيره.
{ وَ } المحجوبون { ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ } وتدعون { مِن دُونِهِ } من التماثيل الباطلة والأظلال الهالكة العاطلة تعنتاً وعناداً، مع أو ما يسمون أولئك الجاهلون آلهة سواه سبحانه، ويسندون الأمور إليهم مكابرة { مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } [فاطر: 13] أي: ليس لهم أن يتصرفوا في قشرة رقيقة ملتفة على ظهر النواة، وهذه مثل في القلة عند العرب فيكف في غيرها؛ إذ الألوهية مسبوقة بوجوب الوجود بالصفات الكاملة الذاتية والأسماء الحسنى التي لا تعد ولا تحصى.
وليس لهؤلاء الأظلال الهالكة وجود في أنفسها، ومن أين يتأتى منهم الألوهية؟! بل هم من أدنى الممكنات وأدون المكونات؛ لكونهم جمادات لا شعور لهم أصلاً إلى حيث { إِن تَدْعُوهُمْ } وتلتجئوا نحوهم { لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ } إذ ليس لهم قابلية السماع والاستماع { وَلَوْ سَمِعُواْ } يعني: لو فُرض أنه سمعوا على سبيل الفرض المحال { مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ } إذ ليس لهم القدرة والإرادة والأوصاف الكاملة اللازمة للألوهية والربوبية { وَ } مع عدم نفعهم إياكم أنتم أيها الجاهلون { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ } ويؤاخذون { بِشِرْكِـكُمْ } وإشراككم؛ أي: اتخاذكم إياهم شركاء مع الله، وهم يتبرءون عنكم وأنتم عنهم { وَلاَ يُنَبِّئُكَ } ويخبرك أيها المخاطب النبيه الفطن أحوال النشأة الأخرى، وما سيجري بينك وبين شركائك من البراءة والملاعنة { مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر: 14] وهو الله العليم الحكيم، الذي لا يعزب عن إحاطة حضرة علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، لا في الأولى ولا في الأخرى، وعنده مفاتح الغيب ومقاليد الأمور لا يعلمها إلاَّ هو.