خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ ٱلنُّشُورُ
٩
مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ
١٠
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
١١
-فاطر

تفسير الجيلاني

{ وَ } كيف لا يعلم سبحانه ضمائر عباده واستعداداتهم مع أنه { ٱللَّهُ } المدبر لعموم أفعالهم وأحوالهم وحوائجهم، هو { ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ } بلطفه ومقتضى جوده { ٱلرِّيَاحَ } العاصفة { فَتُثِيرُ } وتهيج { سَحَاباً } هامرة، مركبة من الأبخرة والأدخنة المتصاعدة، القابلة لأن تتكون منها مياهاً بمجاورة الهواء البارد والرطب { فَسُقْنَاهُ } بعدما تم تركيبه عناية منا { إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ } يابس في غاية اليبس بحيث لا اخضرار له أصلاً { فَأَحْيَيْنَا بِهِ } أي: بالمطر الحاصل من السحاب { ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي: جفافها ويبسها { كَذَلِكَ } أي: مثل إحيائنا الأرض اليابسة بعد يبسها وجمودها { ٱلنُّشُورُ } [فاطر: 9] أي: أحياؤنا الأموات الجامدة ونشرهم من قبورهم؛ بإعادة الروح المنفصل منهم إلى أبدانهم التي تفتت أجزاؤها، بإرسال نفحات نسمات لطفنا ورحمتنا لتثير سحاب العناية الماطرة قطرات ماء الحياة المسوقة إلى أراضي الأبدان اليابسة والجامدة بالموت الطبيعي، إنما أحييناهم وأخرجناهم من الأجداث؛ إظهاراً لقدرتنا، وتتميماً لحكمتنا واستقلالنا في آثار تصرفنا في ملكنا وملكوتنا، وتعززنا وكبريائنا في ذاتنا.
وبالجملة: { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ } الكاملة، التي لا يعقبها ذل أصلاً، فله أن يسترجع إلى الله ويتوجه نحو توحيده { فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ } والغلبة والسلطنة الكاملة والبسطة الشاملة { جَمِيعاً } ومن أراد أن يتعزز بعزة الله، فله في أوائل سلوكه إلى الله أن يتذكر سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا إلى أن ينتهي تذكره إلى التفكر الذي هو آخر العمل وصار متفكراً في ذاته، مستكشفاً عن أستار جبروته سبحانه، إلى أن صار مستحضراً له، مكاشفاً إياه، مشاهداً آثار أوصافه وأسمائه على صفائح الأكوان بلا مزاحمة الأغيار، وبالجملة: فله أن يشتغل بالتذكر في أوائل الحال؛ إذ { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ } من الأسماء الحسنى والصفات العظمى الناشئة من ألسنة المخلصين المتفكرين في آلاء الله ونعمائه.
{ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ } المقرون بالإخلاص والتبتل { يَرْفَعُهُ } أي: يرفع العمل المنبئ عن الإخلاص، والكلم الطيب إلى درجات القرب من الله، فمن كان إخلاصه في عمله أكمل، كان درجات كلماته المرفوعة نحوه سبحانه أرفع وأعلى عند الله { وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ } مع الله المنكرات { ٱلسَّيِّئَاتِ } يعني به سبحانه: المكر السيئ الذي مكر به المشركون - خذلهم الله - مع حبيبه صلى الله عليه وسلم { لَهُمْ } في النشأة الأخرى { عَذَابٌ شَدِيدٌ } جزاءً لما مكروا به { وَ } إن كان { مَكْرُ أُوْلَئِكَ } الماكرين { هُوَ } أي: مكرهم في نفسه { يَبُورُ } [فاطر: 10] يفسد ويبطل، ويعود وباله ونكاله عليهم بلا أثر لمكرهم بالممكور به صلى الله عليه وسلم.
{ وَ } كيف لا يعود ضرر مكرهم إليكم أيها المشركون؛ إذ { ٱللَّهُ } الذي قصدتم المكر معه ومع من اختاره واصطفاه { خَلَقَكُمْ } وقدر وجودكم { مِّن تُرَابٍ } جامد، لا حسن لها ولا شعور { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } مهينة، مستحدثة من أجزاء النبات المتكون من الأرض { ثُمَّ جَعَلَكُمْ } وصيَّركم حيواناً { أَزْوَاجاً } ذكوراً وإناثاً؛ لتتوالدوا وتكثروا { وَ } يربيكم على الوجه الأحسن الأصلح؛ إذ هو عليم بجميع ما يعنيكم وما لايعنيكم وبكل ما جرى عليكم إلى حيث { مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ } حمله { إِلاَّ بِعِلْمِهِ } وإذنه سبحانه، وهو معلوم له لا يغيب عنه { وَ } بعد وضع الحمل { مَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } يبلغ عمر نهايته { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } بأن لم يصل إليها { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } أي: مثبت مسطور في حضرة العلم الإلهي ولوح القضاء { إِنَّ ذَلِكَ } أي: حفظه وثبته { عَلَى ٱللَّهِ } العليم الحكيم { يَسِيرٌ } [فاطر: 11] وإن كان عندكم عيسر، بل متعذر ممتنع؛ إذ لا يسع لكم استحضار آنكم ولحظتكم، فيكف أحوال يومكم وشهركم وحولكم؟! فيكف أحوال طفوليتكم وكونكم جنيناً؟!.