خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ ٱلقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا ٱلْمُرْسَلُونَ
١٣
إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ
١٤
قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ
١٥
قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ
١٦
وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
١٧
قَالُوۤاْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٨
قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ
١٩
-يس

تفسير الجيلاني

{ وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً } أي: مثل أكمل الرسل للمشركين المصرين على الشرك والطغيان مثلاً من الذين خلوا من قبلهم، مصرين على الضلال والعناد أمثالهم، بحيث لا ينفعهم إنذار منذر وإرشاد مرشد؛ يعني: { أَصْحَابَ ٱلقَرْيَةِ } المصرين على الشرك والعناد، المنهمكين في بحر الغفلة والغرور، والقرية: هي "أنطاكية" والمبشر المنذر هو عيسى - صلوات الرحمن عليه وسلامه - اذكر يا أكمل الرسل وقت { إِذْ جَآءَهَا } أي: القرية { ٱلْمُرْسَلُونَ } [يس: 13] تترى من قبل عيسى عليه السلام ليشردوا أهلها إلى الإيمان والتوحيد.
{ إِذْ أَرْسَلْنَآ } وأمرنا لنبينا عيسى عليه السلام أولاً بالإرسال { إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ } هما يونس ويحيى، وقيل: غيرهما، فلما جاءا إليهم وأظهرا دعوتهم، وكانوا من عبدة الأوثان { فَكَذَّبُوهُمَا } أي: فاجئوا في تكذيبهما بلا تراخ ومهلة وتأمل وتدبر، وبعدما كذبوهما لم يقبلوا منهما دعوتهما، بل ضربوهما وحسبوهما، واستهزءوا بقولهما ودعوتهما { فَعَزَّزْنَا } أي: قويناهما وأيدنا أمرهما { بِثَالِثٍ } أي: برسول ثالث، وهو: شمعون { فَقَالُوۤاْ } أي: الرسل بعدما صاروا جماعة: { إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } [يس: 14] من قبل عيسى، المرسل من قبل الحق، ينذركم عما أنتم عليه من الباطل الفاسد، وهو عبادة الأوثان، وندعوكم إلى دعوة الحق الحقيق بالألوهية والربوبية، المستحق للعبدية، نرشدكم ونهديكم إلى دينه المنزل من قبل ربه.
وبعدما سمع المشركون منهم ما سمعوا { قَالُواْ } في جوابهم مستبعدين منكرين: { مَآ أَنتُمْ } أيها المدعون لرسالة الواحد الأحد الصمد، الفرد الوتر، الذي
{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [الإخلاص: 3-4] { إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } لا مناسبة لكم مع مرسلكم الذي هو من جنس البشر، فلا بدَّ من المناسبة بين المرسل والرسل { وَ } دعواهكم الإنزال والإرشاد من عند الإله المنزه عن المكان والجهة ما هي إلا غرور وتلبيس { مَآ أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ } المستغني عن الزمان والمكان، المنزه ذاته عن سمات الحدوث والإمكان { مِن شَيْءٍ } إذ امثال هذه الأفعال إنما هي من لوازم الأجاسم وأوصاف الإمكان، وهو سبحانه على الوجه الذي وصفتم شأنه مقدس عن أمثاله { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ } يعني: ظهر من دعواكم واستنادكم أمثال هذه الأفعال إلى ربكم أنه ما أنتم في دعواكم هذه إلا كاذبون، مفترون على ربكم ما هو منزه عنه.
وبعدما تفطن الرسل منهم الإنكار والإصرار المؤكد { قَالُواْ } في جوابهم أيضاً على سبيل المبالغة والتأكيد؛ تتميماً لأمر التبليغ والرسالة: { رَبُّنَا } الذي أرسلنا إليكم بوحيه وإلهامه { يَعْلَمُ } بعلمه الحضوري { إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } [يس: 16] من عنده على مقضتى إرادته واختياره؛ إذ لا يجري في ملكه إلا ما يشاء، ولا يقع إلا ما يريد.
{ وَ } ما لنا شغل بإيمانكم وقبولكم، ولا بكفركم وشرككم، بل { مَا عَلَيْنَآ } على مقتضى وحي الله إلينا { إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } [يس: 17] أي: التبليغ الصريح الظاهر والبيان الواضح الموضح لرسالته إياكم، بلا فوت شيء منها وتقصير وتهاون بها، وإهداؤكم وإيمانكم مفوض إليه سبحانه في مشيئته، لا علم لنا به.
وبعدما سمعوا منهم المبالغة والتأكيد، انصرفوا عن المقاومة والمكالمة نحون التهديد بالقتل والرجم، حيث { قَالُوۤاْ } متطيرين متشائمين من نزولهم ومجيئهم، مستبعدين دعوتهم، منكرين له: { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } أي: تشاءمنا منا بقدوكم؛ إذ منذ قدمتم ما نزل القطر علينا، أخرجوا من بيننا وارجعوا إلى أوطانكم سالمين، وانتهوا عن دعوتكم هذه الا تتفوهوا بها بعد، والله { لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ } عن هذياناتكم ومفترياتكم { لَنَرْجُمَنَّكُمْ } بالحجارة ألبتة { وَ } بالجملة: لو لم تنتهوا ولم تكفوا { لَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [يس: 18].
وبعدما سمعتم أيها الغرباء كلامنا هذا، فلكم الإصغاء والقبول والعمل بمقتضاه، وإلا فقد لحق بكم ما لحق.
{ قَالُواْ } أي: الرسل، بعدما سمعوا منهم ما سمعوا وتفرسوا بغلظتهم وتشددهم في الإنكار والجحود: { طَائِرُكُم مَّعَكُمْ } أي: سبب شؤمكم إنما هو من أنفسكم وبسوء صنيعكم وأعمالكم { أَ } لم ينتبهوا ولم يتفطنووا أنكم { ئِن ذُكِّرْتُم } وقبلتم قولنا، واتصفتم بما ذكرنا من الإيمان والتوحيد، لم يلحقكم شيء من المكروه، ومتى لم تتعظوا ولم تتصفوا لحقكم ما لحقكم بشؤم أنفسكم، فتتطيرون بنا عدواناً ولظماً { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } [يس: 19] مجاوزون في الإلحاد والعناد عن سبيل الهداية والرشاد، ومن كمال إسرافكم وإفراطكم تطيرتم بدين الله ودعوة رسله إليه.