خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢٠
ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ
٢١
وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٢٢
أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ
٢٣
إِنِّيۤ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢٤
إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ
٢٥
قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ
٢٦
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ
٢٧
-يس

تفسير الجيلاني

{ وَ } بعدما سمعوا من الرسل ما سمعوا، صمموا العزم إلى قتلهم واجتمعوا ليرجموهم، وانتشر الخبر بن أظهر المدينة، وسعى من يسمع نحوهم حتى { جَآءَ } حينئذ { مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ } من السامعين، وهو حبيب النجار، وكان مؤمناً موحداً، يعبد الله، وكان قد لقي الرسولين الأولين حين دخلا المدينة أولاً، فسلم عليهما وتكلم معهما، فقال لهما: من أنتمما؟ قال: رسولا عيسى النبي عليه السلام، إنما أرسلنا لندعوكم إلى طريق الحق وننقذكم من عبادة الأوثان، فقال: أمعكما آية؟ قالا: ونبرئ الأكمة والأبرص، فجاء بابنه المريض منذ سنين فمسحاه، فقام الابن سالماً، نشفي المريض، فآمن لهما وصدقهما وانفصل عنهما مؤمناً، واشتغل بعبادة الله.
فدخلا البلد، وأظهرا الدعوة لأهلها وأنكروا عليهما، واتفقوا بقتلهما، فأُخبر الحبيب بذلك، فجاء على الفور حال كونه { يَسْعَىٰ } ويذهب سريعاً، فلما وصل المجمع ورآهم مجتمعين عليهما، فسألهما على رءوس الملأ: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى النبي عليه السلام ندعوكم إلى توحيد الحق، قال: هل تسألان الأجر والجعل لرسالتكما؟ قال: لا، ما أجرنا إلا على ربنا، ثم التفت نحو القوم { قَالَ يٰقَوْمِ } ناداهم وأضافهم على نفسه؛ ليقبلوا منه كلامه، وكان مشهوراً بينهم بالورع واعتدال الأخلاق: { ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } [يس: 20] المبعثوين إليكم بالحق؛ ليرشدوكم إلى طريق الحق وتوحيده، إنما جمعل المرسلين مع أنهما اثنان؛ لأن الحبيب منهم حقيقة.
{ ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } أي: اتبعوا هادياً بالحق على الحق إلى الحق، خالصاً لوجه الحق بلا غرض نفساني من جعل وغيره، كالمشتيخة المزورين الذين يجمعون بتلبيساتهم وتغريراتهم أموالاً كثيرة من الحمقى المتماثلين نحو أباطليهم وتزويراتهم { وَ } كيف لا تتبعون أيها العقلاء الطالبون للهداية والصواب { هُمْ مُّهْتَدُونَ } [يس: 21] مصيبون، متصفون بالرشد والهداية قولاً وفعلاً.
ثم لما سمع القوم من الحبيب ما سمعوا، عيروه وشنعوا عليه، وقالوا له: لست أنت أيضاً على ديننا ودين آبائنا، بل ما أنتم إلا على دين هؤلاء المدعين { وَ } بعدما ما تفرس الحبيب منهم الإكار عليه أيضاً، قال كلاماً ناشئاً عن محض الحكمة والفطنة على وجه العظة والتذكر لنفسه؛ ليتعظوا به على سبيل الالتزام؛ إذ هو أسلم الطرق في العظة والتذكير، وأدخل في النصيحة والتنبيه: { مَا لِيَ } أي: أيّ شيء عرض عليّ ولحق بي { لاَ أَعْبُدُ } وأتوجه على وجه التذلل والانكسار للمعبود { ٱلَّذِي فَطَرَنِي } على فطرة العبودية؛ أي: أبدعني وأظهرني من كتم العدم ولم أك شيئاً مذكوراً، ورباني بأنواع اللطف والكرم وأفاض عليّ من موائد لطفه وإحسانه، سيما العقل المفاض المرشد إلى المبدأ والمعاد { وَ } كيف لا أعبد وأتوجه نحوه؛ إذ { إِلَيْهِ } سبحانه الموصوف بالأسماء الحسنى ونعوت الجلال والجمال، لا إلى غيره من الأوثان والأصنام الحادثة، الهالكة في ذواتها، العاطلة عن الأوصاف الكاملة، المنحطة عن رتبة الألوهية والربوبية { تُرْجَعُونَ } [يس: 22] أنتم أيها الأظلال الهالكون، التائهون في بيداء ظهوره، حيارى هائمين رجوع الأضواء إلى شمس الذات، والأمواج إلى بحر الوحدة الذاتية.
{ أَ } أنكروا المعبود على الحق، المظهر لما في الوجود { أَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً } باطلة من الأوثان، عاطلة عن التصرفات مطلقاً، منحطة عن رتبة العبودية، فكيف عن الربوبية والألوهية؟! وسميتهم شفعاء مغيثين لدى الحاجة مع أنه { إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ } القادر المقتدر على أصناف الإنعام والانتقام { بِضُرٍّ } أي: مصيبة وسوء يتعلق مشيئته على إنزاله إليّ { لاَّ تُغْنِ } ولا تدفع { عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً } من بأس الله وعذابه، بل لا تنفعني شفاعتهم أصلاً { وَلاَ يُنقِذُونَ } [يس: 23] بالمعاونة والمظاهرة عن عذابه سبحانه أيضاً.
وبالجملة: { إِنِّيۤ } بواسطة اتخاذهم شركاء لله، شفعاء عنده { إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [يس: 24] وغواية عظيمة ظاهرة؛ إذ اختيار ما لا ينفع ولا يضر على الضار النافع المعطي المانع، أو ادعاء مشاركتهم معه وشفاعتهم عنده سبحانه من أشد الضلالات وأردأ الجهالات.
{ إِنِّيۤ } بعدما تفطنت بوحدة الحق واستقلاله في الوجود والآثار { آمَنتُ بِرَبِّكُمْ } الذي هو ربي ورب جميع ما في حيطة الوجود وتحت ظله من الأكوان غيباً وشهادة، واعترفت بتوحيده واستقلاله بالتصرف في ملكه وملكوته بعدما كوشفت بوحدة ذاته { فَٱسْمَعُونِ } [يس: 25] أيها العقلاء السامعون، المدركون مضمون قولي، واتصفوا بما فيه، وتذكروا به إن كنتم تعلمون.
فلما سمعوا منه توصيته وتذكيره، أخذوا في قتله وهلاكه، فوطئوه بأرجلهم إلى حيث يخرج أمعاءه من دبره، وهو في تلك الحالة زاد انكشافه بربه، واستولى عليه سلطان الوحدة وجذبته العناية الإلهية، وأدركته الكرامة القدسية حيث { قِيلَ } له من قبل الحق حينئذ: اخرج من هوؤتك وانخلع من أنانيتك { ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ } أي: فضاء الوحدة التي لا فيها وصب ولا نصب ، ولا عناء ولا تعب، فخرج وانخلع، فدخل على الفور واتصل، ثم بعدما وصل إلى ما وصل { قَالَ } متمنياً، متحسراً لقومه بعدما لحق بفضاء الوصال: { يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ } [يس: 26].
{ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } وانكشف علي وجذبني نحوه بعدما ستر عني أنانيتي ومحا مني هويتي { وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ } [يس: 27] المكرمين: الآمنين الفائزين المستبشرين الذين
{ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [يونس: 62].