خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلأَوْتَادِ
١٢
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْئَيْكَةِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلأَحْزَابُ
١٣
إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ
١٤
وَمَا يَنظُرُ هَـٰؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ
١٥
وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ
١٦
ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ
١٧
إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ
١٨
وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ
١٩
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ
٢٠

تفسير الجيلاني

إذ { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } مع كمال قوتهم وقدرتهم نوحاً، فأغرقناهم أجمعين بالطوفان { وَعَادٌ } مع نهاية عتوهم وعنادههم هوداً، وأهلكناهم بالريح العاصفة { وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلأَوْتَادِ } [ص: 12] أي: صاحب الدولة الثابتة التي ادعى بسببها الألوهية لنفسه موسى، فأغرقناهم وجنودهم في اليم.
{ وَثَمُودُ } المتناهي في القوة والشدة صالحاً، فأهكلناهم بالصيحة { وَقَوْمُ لُوطٍ } المتبالغ في الجحود والإنكار على الله وحدوده لوطاً، فقبلنا عليهم ديارهم، وأمطرنا عليهم الحجارة فأهلكناهم بها { وَأَصْحَابُ لْئَيْكَةِ } شعيباً، فاستأصلناهم كذلك { أُوْلَـٰئِكَ } البعداء المنحرفون عن صوب السداد والصواب هم { ٱلأَحْزَابُ } [الأحزاب: 13] الذين كذبوا الرسل، وتحزبوا عليهم، وقاتلوا معهم مع كونهم أشداء أقوياء، فانهزموا عنهم بنصرنا إياهم، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغري.
وبالجملة: { إِن كُلٌّ } أي: ما كل من الأمم السالفة المذكورة { إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ } المذكورين { فَحَقَّ } أي: لذلك لزم ولحق عليهم { عِقَابِ } [ص: 14] أي: أنواع عذابي ونكالي عاجلاً وآجلاً.
{ وَمَا يَنظُرُ } وينتظر { هَـٰؤُلآءِ } المعاندون معك، المنكرون لدينك، المكذبون لرسالتك وكتابك { إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً } ينفخها إسرافيل في الصور بإذن منَّا فيسمع هؤلاء الضالون، فيموتون على الفور بلا توقف؛ إذ { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } [ص: 15] قرار وقوف مقدار خروج النفس ورجوعه.
وهكذا كناية عن سرعة نفوذ قضاء الله، حين حلول عذابه عليهم إلى حيث لا يسع فيه تمييز التقدم والتأخر أصلاً، بل ينزل بغتة.
{ وَ } بعدما سمع كفار مكة أوصاف أهوال يوم الجزاء، وافتراق الناس فيها فرقاً وأحزاباً، بعضهم أصحاب يمين، وبعضهم أصحاب شمال، فيُعطى لكل فرد كتاباً كُتب فيه أعمالهم الصالحة والفاسدة، فيُحاسب كل على أعماله، فيُجازى على وفقها { قَالُواْ } مستهزئين متهكمين؛ يعني: أهل مكة بعدما سمعوا أهوال يوم الجزاء وأفزاعها: { رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } أي: صحيفة أعمالنا، وقسطنا من العذاب المترتب عليها { قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ } [ص: 16] ونحن نرضى بها وبالعذاب المترتب عليها بلا حساب.
وبعدما قالوا كذلك، واستهزءوا مع الرسول، وضحكوا من قوله، ونسبوه إلى الخبط والجنون، أمر سبحانه حبيبه بالتصبر على مقاساة ما جاءوا به مما لا يليق بشأنه، فقال: { ٱصْبِر } يا أكمل الرسل { عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } لك، وفي شأنك أولئك الجاهلون عناداً أو مكابرة، ولا تلتفت إلى هذياناتهم، ولا تحزن من أباطيلهم والمستهجنة، فعليك يا أكمل الرسل أن توطن نفسك على الصبر المأمور، ولا تتجاوز عن مقتضاه، ولا تتعب نفسك بالقلق والاضطراب والمجادلة معهم والمخاصمة إياهم إلى أن نكف عنك شرورهم، ولا تفلتفت إلى هواجس نفسك، حتى لا تقع في محل الخطاب والعتاب { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ } وما جرى عليه من العتاب الإلهي من عدم حفظه نفسه عن مقتضيات ومشتهياتها حتى ابتلاه الله سبحانه بما ابتلي مع أنه { ذَا ٱلأَيْدِ } أي: صاحب القدرة والقوة في الحفظ وحفظ النفس عن محارم الله ومنهياته، وكيف لا يكون كذلك { إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص: 17] رجَّاع إلى الله وإلى مرضاته سبحانه في جميع حالاته.
ومن كمال رجوعه إلينا وحفظه لمرضاتنا { إِنَّا } من مقام لطفنا وجودنا { سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ } له، وجعلناها تحت حكمه إلى حيث سارت { مَعَهُ } حيث شاء { يُسَبِّحْنَ } بمشايعته وموافقته حين يسبح { بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ } [ص: 18] أي: بالليل والنهار؛ يعني: ما دام يميل ويتوجه إلى ربه، مالت الجبال معه ازدياداً لثوابه وتكثيراً لفضائله.
{ وَ } كذا سخرنا له { ٱلطَّيْرَ } أي: جنس الطيور يستمعن قوله { مَحْشُورَةً } على فنائه مسخرة لحكمه - على قراءة النصب - "الطيرُ محشورةٌ" عنده محكومة لأمره يسبحن بمشايعته بالغدو والآصال كتسبيح الجال على قراءة الرفع، وبالجملة: { كُلٌّ } أي: كل واحد من داوود والجبال والطيور { لَّهُ أَوَّابٌ } [ص: 19] أي: رجَّاع إلى الله، مسبح له سبحانه، مقدس عما لا يليق بجانبه على الدوام والاستمرار.
{ وَ } من كمال جودنا ولطفنا معه { شَدَدْنَا } له { مُلْكَهُ } الظاهر؛ أي: قوينا استيلاءه وتسليطه على الأنام، وألقينا هيبته على قلوبهم إلى حيث لم يخرجوا عن الحدود الموضوعة في شرعه خوفاً من اطلاعه.
وسبب هيبته أن تحاكم عنده رجلان، فادعى أحدهما على الآخر بأن غصب منه بقرة عدواناً وظلماً، فأنكر الآخر، ولم يكن للمدعي بينة، فأريناه في منامه أن يقتل المدعى عليه، ويحكم بالبقرة للمدعي، فلما استيقظ كذب نفسه واستغفر، فنام فأريناه مثل ذلك، واستيقظ فاستغفر ثانياً، فنام فرأى ثالثاً مثل ذلك، فتيقن أنه من الله، فهمَّ أن يقتله تنفيذاً لما أُلهم إليه، فقال للمدعى عليه: أتقتلني بلا بينة.
فقال عليه السلام: نعم والله لأنفذنَّ حكم الله تعالى فيك، فلما تفطن الرجل منه الجزم في عزمه، اضطر إلى الاعتراف، حيث قال: لا تعجل يا نبي الله حتى أخبرك، والله ما أخذت بهذا الذنب ظلماً وزوراً، ولكني قتلت والد هذا المدعي اغتيالاً وخداعاً.
فتقله عليه السلام: وعظمت هيبته في قلوب الناس، حتى انزجروا عن مطلق المحرمات والمنهيات خوفاً من اطلاعه، وقالوا: لا نعمل شيئاً إلا علمه، فيقضي علينا بمقتضى علمه، هذا تأييدنا وتقويتنا إياه بحسب الظاهر والسلطنة الصورية.
{ وَ } أمَّا بحسب الباطن والحقيقة { آتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ } المتقنة التي يتصرف بها في حقائق الأمور، ويطلع على سرائرها بنور النبوة والولاية الموروثة له من أسلافه الكرام، الموهوبة إياه من الحكيم العلام تأييداً له وتقوية لشأنه { وَ } آتيناه أيضاً { فَصْلَ ٱلْخِطَابِ } [ص: 20] أي: قطع الخصومات على التفصيل الذي وقع بين المتخاصمين بلا حيف وميل إلى جانب على ما هو مقتضى العدل الإلهي بالخطاب المفصول الموضح الواضح المقتصد بلا اقتصار مخل وإطناب ممل، وبالجملة: بلا إغلاق يشتبه مضمونه على المتخاصمين.